مع الاحداث: "كمال جنبلاط هو الحدث هذا الشهر"
اولاً: الذكرى السابعة والاربعون لاستشهاد المعلم كمال جنبلاط
سعيد الغز
ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر
بمناسبة الذكرى السابعة والاربعين لاستشهاده (16 آذار 1977)، لقد غيّب المعلم كمال جنبلاط عنا بجسده ولكنه باقٍ معنا على الدوام بمسيرته المميزة ونضاله بالموقف والكلمة الحق، ومحاولاته الاصلاحية الشاملة في كل المجالات السياسية والاجرائية والتشريعية والادارية والتربوية والاجتماعية والصحية والبيئية ، وفي نضاله الدؤوب لنصرة الحق الفلسطيني في تقرير المصير وردع العدوان الصهيوني ، واقامة الدولة العلمانية المدنية في فلسطين.
وعلى ضوء ما يعانيه لبنان خاصة من فشل ذريع للطبقة السياسية وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من حرب ابادة وحشية شنّها الصهاينة بهمجية لا ترحم النساء والاطفال، ومن تواطؤ دولي مع العدوان وتغطية ارتكاباته ، وتخاذل عربي لا مبرر له اطلاقاً، نتساءل مع الكثيرين في لبنان ودنيا العرب : ما احوجنا اليوم الى رجال دولة ذوي صدقية في النضال ورؤية اصلاحية مستقبلية امثال المعلم كمال جنبلاط؟
ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
ان ما أتيح له مثلنا ان يعايش عصر كمال جنبلاط ويشهد احداث تلك الحقبة بين العامين 1943 و 1977، يعرف بالتأكيد ان انتقاضات لبنان في الاعوام 1952 و 1958 و 1975، وكافة محاولات التغيير والتطوير، وصيغ التحديث الاصلاحي الشاملة كان كمال جنبلاط رائدها ومحركها وقائدها. وكان فاعلاً فيها بفكره ومواقفه وآرائه ونضاله ومسيرته السياسية ، حيث ان مختلف جبهات الاصلاح والتغيير التي تشكّلت في لبنان كانت بزعامته وقيادته، من الجبهة الاشتراكية الوطنية في مطلع الخمسينات وانتهاءً بالحركة الوطنية في السبعينات .
ففي العام 1947، بعد تجربته في النيابة والوزارة ، ثار كمال جنبلاط على الفساد والمحسوبية والزبائنية في السلطة، ودعا الشعب اللبناني الى التمرد الخلاق والثورة على الاستسلام والخنوع واعلن :
"بدون تمرد لن نبني لبنان الوطن ، ويجب ان نتكرس لهذا التمرد ، فالتمرد الخلاّق وحده يبعث لبنان دولة واعية ومستقلة."
(المرجع: من مقال له نشر في جريدة التلغراف بتاريخ 5/7/1947)
وفي شهر ايلول من العام 1952، قاد كمال جنبلاط كأمين عام للجبهة الاشتراكية الوطنية ، ودعا الشعب اللبناني للتمرد الخلاق والثورة السلمية ، فتجاوبت الجماهير الشعبية في مختلف المناطق اللبنانية والقطاعات . وعمّ الاضراب الشامل كل الاراضي اللبنانية ، وفي اليوم الثالث للعصيان المدني استقالت الحكومة ، واستقال رئيس الجمهورية وانتصرت الثورة البيضاء ، وقام عهد جديد.
ولم تسر الامور كما كان كمال جنبلاط يريد ويتمنى، وانحرف العهد الى الانحياز للاحلاف التي لا مصلحة للبنان فيها، وعاد الفساد والمحسوبية وسياسة الانتقام من المعارضة ، فقاد ثورة حمراء في العام 1958 وحدد الاسباب التي استدعت اللجوء الى العنف بقوله:
"ان عدم تمكين جميع اللبنانيين على السواء ، في الحصول على وظيفة ، وعلى العلم والترقي الاقتصادي والمعنوي ، وكما قلنا مراراً ونكرر اليوم ، ان المساواة والعدالة هما اساس بقاء الكيان اللبناني . واذا شاء العهد الجديد الشهابي ان ينجز في حقل الاصلاح الجوهري خطوة ايجابية تذكر له ، فما عليه الا ان يلبّي رغبة الجماهير المحرومين حتى الساعة من الحد الادنى لمطالب الحياة الكريمة . فلنلغ الاوطان الطائفية من افكارنا ولنؤسس لقيام وطناً ودولة مدنية نستطيع فعلاً ان نقول عنها انها وطننا ودولتنا بما لهذه الكلمات من معنى."
(من مقال له نشرته جريدة الانباء بتاريخ 4/7/1959)
وفي العام 1960، بعد انتقاله من المعارضة الى المولاة والمشاركة في الحكومة التي ارادها الرئيس فؤاد شهاب اصلاحية، حدد كمال جنبلاط ما يطمح اليه ويحلم بتحقيقه ، وكتب في مقال نشرته جريدة الانباء بتاريخ 25/6/1960، اعلن فيه : احلم بدولة مدنية للبنان ، لا وطن قومي مسيحي ، ولا وطن قومي اسلامي، وطبعاً لا دولة الحاكم الفاطمي بأمر الله . بل دولة تلغي المفاهيم الضيقة من النفوس ومن النصوص ، بجرأة حاكم صارم ، لا يأبه بأقوال الجهلاء ، وبنصائح بعض رجال الدين ، ولا بأقوال وطروحات بعض الشخصيات والمنظمات الطائفية ، بل بما يشير عليه ضميره ، او روح العدل في نفسه. دولة تستمر في روح ثورية تدفع على الدوام بالتاريخ والاحداث الى الامام ، فتبدّل بسرعة الطاقة النفسية عند الناس الى اقصاها، من دولة مدنية تنهار امامها آلهة القوة العنصرية ، ودولة تتمرس بروح الشجاعة والفضيلة والتمرد على الظلم ، والعزة والكرامة ، وبالحدب المحب المخلص على الفئات الشعبية الاجتماعية ، اياً كان لون بشرتها ومذهبها ومكان سكنها. دولة تتحرر من الطائفية السياسية ، تحمي وتحرص على الثروات العامة، وتحقق اللامركزية الادارية وتنمية كل المناطق وتضمن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ، ولاسيما حق العمل والعلم وحق السكن الملائم الى جانب الحق في الاستشفاء والتعبير الحر عن الرأي، وحرية الفكر لمواطن حر وشعب سعيد."
بهذا حلم كمال جنبلاط ، اعتقاداً منه اننا بهذا فقط نحافظ على لبنان وكيانه ورسالته وعلى ديمومته . ولكنه أردف مضيفاً قوله:
"وعندما نفيق من هذا الحلم ، نرى ان لبنان على عتبة كارثة اذا لم يؤت الى الحكم بالرجال الذين يستطيعون فعلا التجرد من انانيتهم ومطامعهم، ليقوموا بالاصلاحات الجذرية الشاملة التي تجعل من لبنان وطنا لا دكاناً على شاطئ البحر ، ويعالجوا الامور بقوة وايمان وطني عميق وبحكمة في آن."
وكان تخوفه في محله، وشهد لبنان ولا يزال سلسلة من الازمات والاحداث والمآسي و لا يزال.
ومع استشهاده تبدد الحلم ، وما زلنا ننتظر قيام "دولة الحلم" السبيل الوحيد لانقاذ لبنان من معاناته الوجودية.