نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 85

الخميس 25 نيسان 2024

اسرائيل ووحدة الساحات

مقال سياسي

د. رشيد درباس

البُغضُ والخَوفُ توأَما الجهل

أمين الريحاني

صارَت الواقعاتُ السياسيّةُ اليومية تُغني عن أيِّ تحليل، لأنَّ المُواطنين اللبنانيين يقرَؤونَ من خلال مُعاناتهم ما كان يَستَتِرُ من حقائق، أو ما يُموَّه منها بالحماسة واللغات الفاقعة.

لقد عاشَ العرب، منذ إنشاء دولة إسرائيل على عقيدةٍ راسخة وهي أنَّها دولةُ مسخ، ومزعومة، وأنَّ مَصيرَها التفكّك والزوال، وربما ما زلنا على ذلك اليقين رُغمَ ما أنزلته بنا الصهيونية ورُعاتها من أهوالٍ وكوارث تشيبُ لها القرون، ولكنَّ الأمرَ يقتضينا التحرّك قليلًا خارج هذا اليقين، لنرى كيفَ تمَّ إنشاءُ هذا الكيان، وما هي المراحل التي مرّت بها عمليات الإعداد، ونَدرُسُ كَيفَ استثمَرَ “هرتزل” وجماعته نتائج الحرب العالمية الثانية وعَوَّلوا على الاحتلال البريطاني، وهشاشة الدولة العربية التي كوَّنها اتفاق سايكس-بيكو من أشلاءِ الإمبراطورية العُثمانية التي تناهبتها القوى المُنتَصِرة. وعلينا أن نَتَّعِظَ من دقّةِ التخطيط، وخبث المناورات، والصبر المُمَنهَج، بدلًا من ترك الزمام للغضب يخوضُ الحروب الفاشلة، وللخطابِ يُبرِّرُ الهزائم المُتتالية؛ لا شكَّ أنَّ إسرائيل كانت تمرُّ بمرحلةِ قلقٍ بعد أن انحسر المؤسّسون من غير أن يتركوا خلفاءً لهم ذوى دراية وتبصّر، فطفت موجةُ اليمين الأعمى وازدرت بالتسويات والتنازُلات، وذهبت إلى أبعد مما يقول التلمود في الدعوة إلى دولةٍ دينية بحتة نقيّة من أيِّ طوائف أخرى؛ ولقد تجلّى ذلك القلق بظواهر عديدة، أبرزها تمرّد الاحتياط في الجيش الإسرائيلي والمسيرات المتواترة في الشوارع.

لكننا فجأةً وَجدنا المُعارَضة تلتحِقُ بنتنياهو، وجنود الاحتياط يتخلّون عن تمرّدهم، لتنخرط إسرائيل بقضِّها وقضيضها في حملةٍ مفصلية تُعبّرُ بالمُمارَسة عن خطةِ تطهيرِ أرض فلسطين من أهلها، بما في ذلك العرب حاملي الجنسية الإسرائيلية. والمُلاحَظُ أنَّ الدولةَ العبرية هي التي تُمارِسُ، عمليًا، نشاطها العدواني وفقًا لمبدَإِ “وحدة الساحات”، لأنّها تقومُ في الوقتِ عينه بتجريفِ غزّة من البنيان والسكان، وتُحاصِرُ الضفة الغربية وتغتالُ شبابها في الشوارع والأزقّة، وتستبيحُ سوريا بصورةٍ يومية، وكأنها في نزهةٍ مُستَمِرّة للطائرات التي تستَطلِعُ وتُصوِّرُ وتقصُفُ من غير أن تخشى صاروخًا أو مدفعًا مُضادًا. أمّا في لبنان فإنَّ العدو يتبع أخبث الوسائل، فهو يُدمّرُ عن بُعد ويغتالُ عن قُرب في حربَين له فيهما التفوُّق، أي الحرب الجوية والحرب الاستخبارية.

هذا بعضُ من مشاهداتنا اليومية كما أسلفت، ولكنَّ الصورةَ لا تَكتِمِل إلّا إذا راقبنا خطب ملوك الطوائف ورعاياها، حيث يندلعُ الكلامُ بينهم بأقذع من العدوان، وتعيش المجموعات على أنماطٍ مختلفة جدًا، فأهلُ الجنوب يهجرون، والباقون على قلقٍ من أمرهم، وأهل البقاع مُتَرَبِّصون، فيما أهالي المناطق الأخرى في “شغل فاكهون” وهم يُقيمونَ الاحتفالات ولا يَجِدونَ غضاضةً في إشاحةِ الوَجهِ عمّا يجري، رُغمَ أنَّ التهديداتَ الإسرائيلية تتناول لبنان أهلًا وسهلًا وساحلًا وجبلًا؛ إنني لا أقصُدُ اللومَ في ما سبق بل قصدتُ أن أُظهِرَ عبرَ المُشاهَدة لا بالتَنظيرِ السياسي، أنَّ ما كانَ عليه اللبنانيون أيام التحرير من تضامُنٍ قد تَغَيَّرَ كُلِّيًا، وهذه حالةٌ تستدعي إعادةَ نظرٍ عميقة وحقيقية بدلًا من التهاتر بالاتهامات والتهديدات والتلويح بالطلاق.

لقد قلتُ في أحد مقالاتي، أنه في العام 2000، كنتُ نقيبًا لمُحامِي طرابلس، ومُكَلَّفًا بتمثيلِ نقابةِ مُحامِي بيروت بتمنٍّ من الأخ الزميل الراحل ميشال إليان في اجتماعاتِ المكتبِ الدائم لاتحاد المحامين العرب في مدينة الجزائر، فلمّا قدّمني نقيب الجزائر بصفتي مُمَثّلًا للبنان، ارتجَّ فندق “الأوراسي” من أركانه، واشتعلت القاعة التي تستقبلُ ألفي شخص بالتصفيق والهتاف، ذلك أنَّ يومنا ذاك، صادفَ يوم خروج الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية، بما أشعرني أنَّ العربَ كلّهم، لا اللبنانيين فقط كانوا شُركاءً مُتكافلين مُتضامنين مع المقاومة اللبنانية التي حقّقت الإنجازَ العظيم.

ذلكَ كانَ مُنذُ رُبعِ قرن، فهل يحقُّ لنا الآن القول إننا ننتمي لذلك التاريخ؟

لقد سلخنا كثيرًا من الوقت الثمين ونحنُ نتحدّثُ بلغاتِ التورية والمجاز والمداورة، فما أنبتَتْ قمحًا ولا أنجبت طِحْنًا إلى أن تمادت بنا الحوادث إلى مرحلة الارتهان الكُلّي للخارج، ففقدَ لبنان بدهياته، ومسلماته، وتحوّلَ كثيرٌ من نوّابه إلى سُعاةِ بريدٍ لم يحن أوانُ ذهابهم إلى البرلمان ليضعوا أوراقهم المكتوبة سلفًا في الصناديق الكبرى.

أعودُ مرةً أُخرى إلى يوميّاتنا التي هي أبلغ من السجال المُنتَهية صلاحيته كلّيًا والمصحوب بابتكارِ الحجج التي يظهرُ فسادُها بمجرّدِ حَكِّها بالواقع، لأشير إلى أنَّ بعضَ (غير المُمانعين) يُغالون فيذهبون إلى حدِّ التنصّلِ من العداء لإسرائيل، وقد فاتهم أنَّ اسرائيل مُصِرّة جدًا على عداوتها لهم، رُغمَ دعوتهم لانفصالِ الطوائف بعضها عن بعض.

أمّا في (الطرف المُمانع) فيقتضي القول إن الشراسة الإسرائيلية قد تطورت واتَّسَعَت بما لم يَعُد ينفع لرَدعِها الكلام المجرّد، أو التلويح بما لا تُحمَد عُقباه، ذلك أنَّ مناخَ المُمانعة الإقليمية ليس مُحَصَّنًا بموقفٍ عربي واضح، ومُساندةٍ دولية وتضامُنٍ شعبيٍّ محلّي، بما جعلَ الأولويات داخل المحور ذاته متفاوتة جدًا على ما أُفَصّله:

إنَّ “حزب الله” يُبرّرُ وجوده ومواقفه وسيطرته بعَجزِ الدولة اللبنانية عن تجهيزِ الجيش بالأسلحة الفعّالة ضدّ إسرائيل لأنها تخشى تنويع مصادر السلاح، وهذه الحجّة على وجاهتها، لم نلمس نتائجها الناجعة في سوريا التي تمتلكُ الصواريخ والطائرات، وتستقبل القواعد العسكرية الروسية ذات المهابة والقدرة، فهي عرضة لانتهاكِ سيادتها يوميًا من قبل الطائرات المُغيرة، التي تختار أهدافها بهدوء واطمئنان، وتضربُ المطارات والمقار، وتقتل القادة والجنود والمدنيين، ثم تعود آمنة من دون أن تسقط ريشة من أجنحتها؛ والأمر ذاته يُقاس على ما يتعرّضُ له شهداء المقاومة الذين يقضون غيلةً من غير أن تكون لهم فرصة الاشتباك.

ومن جهةٍ أُخرى، فإنَّ إسرائيل لا تكتم شهيّتها ولا تلجم رغبتها بتوسيع إطار المعركة لتشمل إيران أيضًا، بقصفِ المقر القنصلي في دمشق، بحركةٍ غاية في الوقاحة غرضها استدراج الدولة الإيرانية إلى المواجهة المباشرة، وهذا يدحَضُ الرأي الذي يقول بعجز إسرائيل عن فتحِ جبهاتٍ مُتعدّدة مُتزامنة، فهي قادرة على هذا، بسبب الجسر الجوي الأميركي المتواصل؛ ولكننا وجدنا إيران تتعامل مع الأمر برباطة جأش، فلم تذهب إلى الردّ الفوري، بل لم تجعل الأمر يخلّ بحساباتها الاستراتيجية، خصوصًا وأن العدو، يُحاوِلُ أن يستفيدَ من ضعفنا، والمناخ الدولي المؤاتي، لتحقيقِ أهدافه، فيما المشروع النووي الإيراني الذي يكاد يكون في نهاياته، هو الأجدر بالصيانة ويتقدّم على اعتباراتِ الأحداث اليومية رُغمَ فداحتها، وتأثيرها المادي والمعنوي.

ليست بلاد العرب بخير، فرُغمَ نهضة الخليج، نرى بحوره مُعَكَّرة بالنيّات والأطماع، أمّا السودان فهو يُكابدُ من نتيجةِ ما فعلته العسكرة التي انقضَّت على نظامه الديموقراطي، وأرض السواد تشهد على مأساة حضارة ما بين النهرين، وسوريا تفرّقت بين النفوذ الجغرافي والعسكري، وقد كانت تستطيع تفادي هذا بالمصالحة الوطنية الصادقة، ومصر مُحاطة بسودانٍ نازف، وليبيا مُمَزَّقة، وسد النهضة الذي يُهدّدها بالعطش، وجريمة غزة المستمرة، بالإضافة إلى تضخّمٍ نقدي لا سابقة له؛ وعليه، فإنَّ إسرائيل تلعب على هذا المسرح المؤاتي لها زمانًا ومكانًا، بحيث استطاعت تدمير غزة، وتجويف الضفة، التي تألفت حكومتها أخيراً بشكلٍ أثار حفيظة الكاتب العلماني الألمعي (سمير عطالله) لأنها لم تضم سوى مسيحي واحد، لوزارة السياحة بما يؤذي الوحدة الوطنية الفلسطينية ويُغذّي نزف العنصر المسيحي الذي كان له دوره التأسيسي فكرًا وحركة ومقاومة. وهذا ما يُعيدُني إلى لبنان لأُشِير، إلى أنَّ دَفعَ الرأي العام المسيحي إلى منطقة المظلومية والتهميش، من دون التوقّفِ عند مشروعية هواجسه وخسائره، وتسرّب أعداده من توازن المعادلة، هو أول إجراءات إلغاء صيغة لبنان الكبير، في ظلِّ التلويح بخرائط جديدة تمتدُّ خطوطها المسمومة إلى كل دولة عربية تُعاني من خلافاتها الداخلية المُستَثْمرة دوليًا؛ لم يعد لبنان، دولةً ومواطنين مقهورين، يستطيع البقاء في قاعة الانتظار المزرية، ريثما ينجلي الصراع الإقليمي عن نتائجه، ولذلك فإنه مَدْعوٌّ ليكون دولة المقاومة الأولى ضد مشروعات الفرز التي يُرَوِّجُ لها المعلومون والمجهولون، وهذا لن يكونَ إلّا بتوافُقِ قواه وأحزابه وطوائفه على أولوياته، لأنَّ إسرائيل التي تسعى إلى استغلال الظروف الحالية، بتعميم العدوان، “ووحدة ساحاته” لا تُصَدُّ إلّا بساحةٍ لبنانيةٍ مُوَحَّدة.


الكاتب

د. رشيد درباس

مقالات أخرى للكاتب

العدد 79

الثلاثاء 31 تشرين الأول 2023

"ابن رشدي" يتبوأ عرشًا على ضفاف السين

د. رشيد درباس


انتخب أمين معلوف أمينًا دائمًا للأكاديمية الفرنسية، بعدما فاز على منافسِه الذي شهد له بتلك الميزات العالية منذ العام 2012، عندما دخل أمين إلى الأكاديمية ليشغل المقعد التاسع والعشرين، فما عتّم أن استعاد تاريخه، وتاريخ فرنسا معه خلال أربعة قرون، بسرده حياة ومغامرات الأشخاص الثمانية عشر الذين تعاقبوا قبله على كرسيه.

العدد 78

الثلاثاء 03 تشرين الأول 2023

هل يسفر التنقيب عن استخراج رئيس

د. رشيد درباس


لم نلمس بعدُ الطرفَ المبلول رغم دخولنا في أيلول. لكننا ما زلنا ننتظر الغيث الفرنسي الذي لم تفلح رسالة #لودريان إلى من اصطفاهم من النواب في أن تبشّرنا منه بديمة سكوب، تسلم قيادَ الدولة إلى يدٍ رئاسية سمحة.

العدد 76

الخميس 03 آب 2023

مَصْرَفٌ أم "مصرف"؟!

د. رشيد درباس


قبل هزيمة 1967، كان توافق عربي على أن لبنان دولة مساندة في الصراع العربي الإسرائيلي؛ لكن ذلك لم يحجب دوره الريادي في خدمة القضايا القومية، فكرًا وصحافة وفَنًّا، حتى إنه كان مضافةً للمناضلين العرب، تَكَوَّن وَعْيُ بعضِهم في جامعاته،

العدد 75

الثلاثاء 27 حزيران 2023

بالنسبة لبكرا.. شو؟

د. رشيد درباس


ليست المشاهد الكوميدية هزلاً بحتاً، فالتراث مليء بالمؤلفين المسرحيين والسينمائيين والممثلين الفكاهيين الذين كانوا يتمتعون بالرصانة الفكرية والعمق الإنساني والبراعة الفنية، بدءاً بموليير وشارلي شابلن مروراً بنجيب الريحاني وزياد الرحباني وعادل إمام، بل إن كثيراً من أفلام شارلي شابلن الصامتة، كانت تتستدرج الدمعة، عقب الضحكة وتترك في النفوس آثاراً غائرة.


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك