مَصْرَفٌ أم "مصرف"؟!
مقال سياسي
د. رشيد درباس
قبل هزيمة 1967، كان توافق عربي على أن لبنان دولة مساندة في الصراع العربي الإسرائيلي؛ لكن ذلك لم يحجب دوره الريادي في خدمة القضايا القومية، فكرًا وصحافة وفَنًّا، حتى إنه كان مضافةً للمناضلين العرب، تَكَوَّن وَعْيُ بعضِهم في جامعاته، ولاذ به آخرون ملتجئين إليه أثناء سلسلة الانقلابات التي سادت المنطقة في ذلك الحين. بل إن حذر الدولة الرسمي إزاء الخلافات العربية العربية مضافًا إلى مناخ الحرية والنظام المصرفي المتطور، عاد على الشعب اللبناني بخير ونمو، فشهد لبنان هجرة اقتصادية ومالية هربت من قوانين التأميمفي الإقليم، وصبت خبراتها وأموالها واستثماراتها في دورةٍ اقتصادية مزدهرة، ترعاها قوانين متطورة تضمن الودائع وتبيح حرية نقل الأموال من غير رقابة. وبعد هزيمة 1967 تبدل المشهد رأسًا على عقب، لا في لبنان وحده بل على امتداد العالم العربي، وراجت فكرة الحرب الشعبية بدلًا عن ضائعِ الجيوش المهزومة، من غير أن نفطن يومذاك إلى أن خسارة الحرب كانت لعلةِ فشل أنماط الحكم التي لم تُعدَّ للمعركة دولًا قوية باقتصادها وبنظمها السياسية، بل اكتفت "بخطاب الانتصار" الذي فُرِضَ على الوجدان العام، فلما وقعت الواقعة، رفضنا دراسة أسبابها، ورحنا نبحث عن "حلول سريعة" متلهفة، فكان ذلك سببًا إضافيًّا في تفاقم الخسائر وتماديها عبر السنين.
في ذلك الوقت انبرى الرأي العام لتحميل الجيوش مسؤولية نكسةٍ حَقَّت بالدرجة الأولى على الأنظمة التي حجرت على الديمقراطية، ومنعت المحاسبة وسلمت الأمور لبيروقراطية مترهلة بليدة؛ وبدلًا من موقف عربي يستثمر نتائج حرب "أكتوبر"، ذهبنا فرادى إلى مفاوضات متساهلة حققت لإسرائيل مكسبها الأكبر، وهو خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، ففقد توازنه، وثقله وارتكازه، ثم راحت بقية الدول العربية، كل على طريقتها، تبحث عن "توازن استراتيجي" مع العدو، طغت عليه اللفظية الظاهرية، فيما كانت المباحثات الخفية أو العلنية تفتش عن "كامب دايفد" آخر.
من هذه النقطة كان التجاذب بين الأنظمة العربية ومنظمة التحرير التي لم تجد لها موئلًا، بعد "أيلول الأسود" وانهيار العلاقة مع سوريا، إلا لبنان الذي كان قد وقع في فخ "اتفاق القاهرة". مذّاك بدأت الدولة اللبنانية تفقد تدريجيًّا احتكارها للسلطة، إلى أن سادت الازدواجية التي انتقلت إلى ازدواجية أكثر صرامة بعد خروج المقاومة الفلسطينية وسيطرة الجيش السوري على نظام الحكم اللبناني المختلف كليًّا عن نمط الحكم السوري، حتى صرنا إلى "نظام ديمقراطي شكلي"، أدارته مخابرات دولة القائد الواحد التي تدخلت في الشاردة والواردة، بدءًا من تسمية الرؤساء مرورًا بتشكيل الحكومات وصولًا إلى تعيين الموظفين.
ظن الرئيس رفيق الحريري أن العلاقات السورية السعودية الطيبة، تمنحه فرصة الاستثمار في مشروع إنمائي لا يصطدم مع التوجه السوري خارجيًّا، فخاب ظنُّهُ وظَنُّنا، يوم جرى نسفه في عقر بيروت، إذ كانت الجريمة عنوانًا لموقف أساس، مفاده عدم السماح للدولة باسترداد ذاتِها وترميمِ مؤسساتها واقتصادها. وعندما كانت 14 آذار 2005 شرارة خروج الجيش السوري في لبنان، انتقلت الازدواجية إلى سلطة حزب الله، كبديل داخلي أكثر فعالية و"مشروعية" من الهيمنة السورية.
حيال الواقع الجديد الذي تكيفت معه القوى السياسية بشكل أو بآخر، بدأ تراجع النمو في العام 2011، واختل ميزان المدفوعات اختلالًا غير مسبوق، وآلت ملاءة البنك المركزي من العملات الصعبة إلى السلبية وأصبحت المطلوبات تفوق الموجودات، إلى أن وجدنا أنفسنا في حالة ضنك اقتصادي، مردّه أن القبضة السياسة المسيطرة لا تعير اهتمامًا لمستلزمات العافية الاقتصادية التي تتمثل أولًا وأخيرًا بضرورة انتهاج سياسة خارجية غير مرتهنة لمحور ما، واعتماد سياسة داخلية تقوم على أحكام الدستور والحوكمة ومراعاة التوجهات السياسية للمجموعات والأحزاب.
هذا التشخيص العاجل من شأنه أن يضع النقاط على الحروف فيما لو تيقَّن الوجدان العام أن لا بديل عن وحدانية السلطة. أما أن يستعصم فريق بقوته وانخراطه في مشاريع تتخطى حدوده ومصالح الدولة، ويذهب فريق آخر إلى التلويح بالطلاق، منصرفًا إلى إعداد "الدراسات" والمشاريع الملونة بالألوان الطبيعية لأنواع الفدراليات غير الطبيعية، فهذا يعني أن الأزمة آيلة إلى موعد بعيد، مرهون بما ستسفر عنه المصالحة السعودية الإيرانية، وربما الانتخابات الأميركية، التي يتوقف على نتيجتها مصير تسوية المسألة النووية.
بعد المباحثات التي أجراها الموفد الرئاسي الفرنسي، تبين جليًّا أن الاستعصاء الداخلي لم يزل في ذروة التعقيد، لأن كل فريق يطالب بالحد الأقصى الذي لا تراجع فيه، إلا إذا توصل الرعاة الإقليميون والدوليون إلى خلق مساحة نزيهة لتفاهم واقعي وحوار متكافئ.
وفي الأسبوع الماضي، برغم تصويت نواب اللقاء الديمقراطي للوزير جهاد أزعور، لفتني أن الرئيس السابق للحزب الاشتراكي وليد جنبلاط عاد للتأكيد على أهمية الحوار الداخلي، رغم إدراكه لمصاعبه، وذلك لأنه الأكثر خبرة وإدراكًا بالعوامل الخارجية التي وضعت لبنان في الدوامة الدموية والانهيار الاقتصادي. وهو يعرف كثيرًا، أن "تقاطعًا واسعًا" إقليميًّا ودوليًّا، رضي لهذه الدولة الصغيرة والحساسة أن تكون ساحة الصراعات ومصفاة لها ومصرفًا للأزمات؛ كما حدث يوم انعقد القبول الدولي بالسيطرة السورية على لبنان كله ثمنًا لانضمام النظام السوري إلى تحالف تحرير الكويت، وكما يحدث في ظل بقاء لبنان حاجةً للحفاظ على سخونة ما مع العدو الإسرائيلي الذي بات يَبْتَرِدُ في مياه دول عربية أنجز معها المصالحات، فيما يستشرس في قمع الفلسطينيين الذين يعانون الأَمرَّين في ظل خيمة "أوسلو" المثقوبة.
كلٌّ بَحَثَ عن حلِّه الفردي ودفع دولة المساندة لتصبح دولة المواجهة الوحيدة في أقسى الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أفقدتها المناعة الوطنية، بحيث تصدعت الوحدة الداخلية وراحت كل فئة تبحث عن خلاصها الخاص، ولو أدى ذلك إلى العودة لنغمة التنصل والفدرالية.
من هنا، أجد أن اتهام "الفدراليين" و"الاتحاديين" بالعمالة والصهيونية غيرُ منصف ولا مجدٍ رغم غُلُوِّهم، لأن من شأنه أن يزيد في الانقسام الراهن، ولأن من حق هؤلاء، بل من حق الشعب اللبناني كله، إجراءَ إعادة نظر بالسياسات المتبعة منذ اتفاق الدوحة، بل منذ إنجاز التحرير، فهي على وجاهة حمايتها للحدود الجنوبية برعاية "اليونيفل"، تسببت في تسييب باقي الحدود، وفي انفتاح البحر أمام هجرة الموت الجماعي غرقًا، وفي تصدع الخطاب الوطني، وفي انهيار الاقتصاد، وفي دفع كثيرين إلى البحث عن الخلاص المغشوش، كَمَثَلِ المستجير من الرمضاء بالنار، وهذا بحد ذاته مدعاة للتبصر والتنبه والتصويب، لا إلى النبذ والاتهام.
لم أكن أسرد التاريخ بل أسترجعه، لاستخلاص عبر كثيرة، منها أن البلد المتعدد الطوائف ليس بلدًا متعدد الجنسيات أو الثقافات كما زعموا، وأن انتظار الحل الخارجي قد يتأخر عن وقوع الانحلال الكلي، وأن قوة المقاومة لا تكمن في استقلالها وتفردها وسيطرتها، بل في اندماجها بالدولة واكتسابها للحماية الشعبية، وأن الحل المحلي، أقلُّ كلفة وأقرب موردًا وأكثر نجاعة، وأن الحضرة السياسية لا تخلو من شخصية غير خلافية تسترد الدولة من تشتتها لتكون ضمانة للفرقاء كلهم. إن رهن الاستحقاق الرئاسي بوسائل الاستعصاء، يفقد الدولة حقها باسمها، لأن أنتربولوجيا الدساتير والقوانين تقوم على مبدأ حماية المواطنين كلهم، ضعفاء وأقوياء، كما قال الدكتور أنطوان مسرة، وعلى كل من يريد أن يحكم، أن يحترم ذلك المفهوم، بالخروج من الثنائية الصلبة، والثلاثية الهشة، إلى إعادة الاعتبار للدولة ككيان يؤمن مصالح المواطنين، وإلى التشبث بمفهوم لبنان الكبير الذي أراده مؤسسوه شرفة حضارية ومناخ ديمقراطية وموئل علم ومنزه فن، ومطبعة، وصحافة حرة، ومصرفًا لأغنى المودعين في العالم، لا "مصرفًا" لنفايات النزاعات القريبة أو البعيدة.
بمناسبة ما جرى في روسيا من تمرد صاحب شركة "فاغنر" على الرئيس بوتين، نتذكر أن الحرس القومي الذي أسسه حزب البعث في العراق، اصطدم مع الجيش العراقي، وهذا يحدث الآن بين الحشد الشعبي والحكومة العراقية، كما نتذكر أن سرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت الأسد اشتبكت مع الجيش السوري التابع لحافظ الأسد، وأن كثرة الجيوش في ليبيا تحول دون توحد هذه الدولة الغنية، وأن صراع "البرهان" و"حميدتي" يقضي على ما تبقى من أهميةٍ للسودان الذي أفقده الاستبداد جنوبه، وجفف خصوبته، وأخضعه للصلح مع إسرائيل، وها هو الآن يؤهله لصراعات قبلية لا تنتهي.