عن اية دولة مدنية يتحدثون؟
ملح الارض
عباس خلف
لبنان اليوم مهدد بكيانه ، وبمعاناة شعبه التي لم يشهد لها مثيلاً في اصعب مراحله التاريخية : انهيار مالي واقتصادي، اختناق اجتماعي، فقر مدقع وبطالة، هجرة تواجه اقفال ابواب السفارات في وجهها، دول شقيقة وصديقة تحولت عن الاهتمام بالقضايا اللبنانية بعدما تعذّر على السلطات الحاكمة في لبنان الاستجابة الى الدعوات الاصلاحية الانقاذية والتلهي بالمناكفة والكيدية التي تحول دون تشكيل حكومة مهمات انقاذية قبل فوات الاوان، طمعاً بمكاسب آنية او مستقبلية.
وبدلاً من الانصراف الى البحث عن حلول للازمات المتنوعة والسعي لوقف تدهورها اكثر، ترتفع بعض الاصوات مطالبة بتغيير النظام واقامة دولة مدنية . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : كيف لأشخاص مواقفهم وتصرفاتهم طائفية او مذهبية، ان ينقذوا لبنان واللبنانيين من النظام السياسي الطائفي الفاسد وهم من اوصل الاوضاع في لبنان الى ما انحدرت اليه من سوء.
ان اخراج لبنان من معاناته لن يتم عن طريق جماعات هي في تفكيرها وفي تصرفها وفي تطلعاتها طائفية ومذهبية ، بل يتطلب قيادات من خارج هذه العقلية والمسلكية .
وكان المعلم كمال جنبلاط سبّاقاً في وصف الداء اللبناني ، واقتراح البديل القادر على انقاذ اللبنانيين من معاناتهم . وهذه مواقف له نعيد التذكير بها لعلها تفيد في تحقيق الصحوة والوعي المطلوبين لاقامة الدولة المدنية المستوفية الشروط.
"النظام الطائفي المقام في لبنان يحوّل الطوائف احزاباً، او يجمع بين احزاب فريق من هذه الطوائف ، فيتعطل لدى هذا الفريق او ذاك الفكر السياسي وتنشط المصلحة الطائفية وتتقدم على ما عداها ، وتظهر العصبية التي لا تلبث ان تتجسد في التعصب فتقوم المنازعات ويقع الانقسام كما هو حاصل اليوم! الهستيريا الطائفية مرض عضال يستدعي علاجاً حقيقياً حتى لا يستفحل اكثر ويودي بالكيان والوطن".
(المرجع: كتاب كمال جنبلاط "لبنان وحرب التسوية "ص. 136 – سنة 1976)
وفي مكان وبمناسبة اخرى اعلن:
"الفوضى تعود الى لبنان من جديد على يد هؤلاء السياسيين التقليديين المتلاعبين بمصير الناس والوطن. الشعب يتزايد قلقه على المصير ، ويسحب الثقة عن هذا المجلس النيابي ، وعن الطبقة الحاكمة ويعلن قرفه من النظام القائم ويطالب بتطويره واصلاحه... مسكين لبنان، فالى متى سيظل يحكمه هؤلاء الناس".
(المرجع ذاته ص. 145 – سنة 1976)
وبعد هذا التوصيف الذي يؤكد استحالة حصول التطوير والاصلاح على يد هذه الطبقة السياسية الطائفية ، يطالب كمال جنبلاط :
"لجميع هذه الاسباب والمحاذير، نطالب بحكومة من خارج المجلس النيابي، ومن خارج الاحزاب ، تباشر فوراً بوضع اسس علمية للاصلاح، وتحاول تحقيق اصلاح حقيقي لا سطحي ، ولو استمع المسؤولون لما يطالب به الشعب لكنّا شكلنا مثل هذه الحكومة منذ اشهر ، وباشرنا بتحقيق مضامين الاصلاح المنشود."
(المرجع ذاته ص. 160 – سنة 1959)
وفي مقاله له وردت في الصفحة 263 من كتابه "اسس بناء الدولة اللبنانية وتنظيم شؤونها" تحت عنوان : علمانية الدولة شرط بقاء لبنان وضمان وحدة بنيه ، نقتطف منها ما يأتي :
"لبنان بلد عربي ، وكيان سياسي مستقل، ودولة علمانية لا تمييز فيها بين المواطنين.
المفهوم العلماني يتعاظم اثره في حياة الفرد والجماعة ويشكل دافعاً اساسياً لتوحيد الشعور العام ونشر روح الاخوّة والمساواة ، والارتفاع بالمواطن فوق فكرة المصلحة الانية الفردية الخاصة وانسجامها مع مصلحة الجماعة ، وتكوين فكرة الوطن ، وبعث روحية النهضة العمرانية والحضارة . وفي المرحلة الراهنة التي يمر بها العالم العربي ولبنان يعتبر قيام كيان لبناني مستقل ضرورة وطنية ، على ان يتحرر اللبنانيون من العصبية السياسية الطائفية ونزعاتها الهدامة. ونرى ان مهمة العهد القائم وكل عهد يجب ان تنحصر في توجيه نشاطات المواطن، وجهود السلطة الى علمنة الدولة. لبنان الذي نريد يحترم حقوق جميع مكوناته، لا وطناً قومياً مسيحياً، ولا وطناً قومياً اسلامياً، ولا طغياناً سياسياً لطائفة على الطوائف الاخرى، بل دولة مدنية علمانية تحترم مبادئ الاديان وتستند اليها. فعلمانية الدولة شرط بقاء لبنان وضمان وحدة بنيه".
وحول المطالبة بفصل الدين عن الدولة، كان لكمال جنبلاط موقف عبّر عنه بما يلي :
"يقول الكثيرون "نريد فصل الدين عن الدولة" ، وهذا تعبير خاطئ، في دلالاته وفي مفهومه. وقد يودي الى التباس محتوم ، وانما يقصد منه فصل الطائفية عن الدولة ، وفصل الدولة عن الطائفية . ونعني بذلك خاصة نظام الطائفية السياسية لانه لا يجوز، ضمن الوطن الواحد، اي المجتمع الواحد ان لا يكون جميع المواطنين متساوين بالحقوق المجتمعية اي المدنية والسياسية والاقتصادية امام الدولة ، فلا تحكم فئة شرعة وقانون لا تخضع له الفئات الاخرى ، والا تصبح الطائفة دولة ضمن الدولة ، وتصبح الدولة المركزية اتحاد طوائف. وهذا ، بالطبع، مناف للمفهوم الديموقراطي للدولة ، ولمبدأ المساواة ، والاخوة التامة بين البشر."
(المرجع: كتاب كمال جنبلاط "نظرة عامة في الشؤون اللبنانية والذهنية السياسية " ص. 108 – سنة 1968)