في السادس عشر من شهر آذار سنة 1977، اغتالت يد الغدر المعلم كمال جنبلاط قبل ان يتم الستين من عمره. وترك على هذه الارض الطيبة التي ناضل من اجل مستقبل افضل لمواطنيها، دعوة للبنانيين للثورة على الظلم والوصاية والتبعية والفساد والتحرر من السجن الكبير.
لقد اغتالوا جسد المعلم ، ولكن فكره باق بقاء هذه الارض والتغيير آتٍ لا محالة اذا اراد اللبنانيون لوطنهم ان يستمر ويدوم. هو دعا وناضل حتى الشهادة، وخاض معركة الحرية والديموقراطية ومكافحة الفساد والتبعية والانحياز ، وتجاوز الطائفية السياسية من اجل قيام دولة المواطنة المدنية والمساواة والعدالة الاجتماعية ، واعتبر ان العلمنة الشاملة وحدها تنقذ لبنان من ازماته وتصون وحدته.
عن هذه الطائفية السياسية التي تعرقل تحديث لبنان وتطويره قال كمال جنبلاط في مقابلة اجرتها معه "جريدة اليوم" في 12/2/1969 : "الطائفية السياسية مزقت لبنان وشتتت شمل شعبه، وفضحت مقولة التعايش المشترك والعيش المشترك القائمين على التكاذب المشترك. الازمة اللبنانية قائمة في لبنان والفرقة لاتزال هي هي على مر العهود منذ اعلان الاستقلال سنة 1943، والتسابق على النفوذ بين الطوائف من اجل السيطرة السياسية والاقتصادية لا يزال على اشده ، ويحول دون تطبيق المبادئ التي يقوم عليها النظام الديمقراطي المعتمد في لبنان ، اي المساءلة الكاملة امام القانون في الحقوق والواجبات والفرص، ويتيح الاستمرار في المحسوبيات والفساد والإفساد بحماية الادعاءات المتمترسة وراء الطائفية السياسية ."
في مطلع خمسينات القرن الماضي ، بعد انتصار الثورة البيضاء سنة 1952 على الفساد ، اعلن كمال جنبلاط فعل ايمانه بلبنان كما يحلم به وقال:
• " اؤمن بلبنان صورة للحق والعدل والمحبة ، فارضه مقدسة وحدوده محرمة ، وارزه لا يمس ، ونوره ساطع مدى الدهر .
• اؤمن بالحياة والتمرد للحق الغلاب ، وبالقوة المعنوية ، وبالتضحية في سبيل الله والوطن والقيم السامية .
• اؤمن بعظمة لبنان وتميزه عن سائر دول العالم بالرقي والشخصية والرسالة التي تجلت على مر العصور من تاريخه بأنه موطن النبوغ والعبقرية والفكر.
• اؤمن بالتحرر من الفقر والعوز ، ومن الجهل والرذيلة والفساد ، وبقيام نظام فيه يجمع بين الحرية والسعادة والرخاء لجميع المواطنين بحيث يصبح لبنان بلداً حراً لشعب سعيد."
(المرجع: مخطوطة بخطه ، وردت في الصفحة 39 من كتابه "المعرفة زاد الانسان ")
وفي اواخر الخمسينات ثار كمال جنبلاط على انتشار الفساد والمحسوبية والاستئثار بالسلطة والتزوير، والجنوح نحو الالتحاق بالاحلاف ، والاستغلال الطائفي ، وحذّر المسؤولين آنذاك من مغبة هذه السياسات.
وفي العام 1973، عندما لاحت بوادر ازمة كبرى تهدد وحدة البلد وكيانه ، اصدر كمال جنبلاط بتاريخ 7/6/1973 بياناً جاء فيه:
"كنا ولا زلنا نطالب بضرورة العودة الى التقيد بالدستور في مضامينه البرلمانية المعمول بها في البلدان الديموقراطية والتي تجعل رئيس الدولة شخصاً معنوياً وحكماً عادلاً وقاضياً منصفاً يلي الاحكام ولا يحكم، وتوكل مهمة الحكم الى رئيس الحكومة والوزراء الذين ينبثقون من الاكثرية النيابية ، والا تحول الحكم الى لون من التسلط الفردي ، وهذا ما لا يجيزه الدستور ولا القوانين ولا الاعراف البرلمانية ."
مع الاسف ، لم تتم الاستجابة ، ودخلت البلاد في النفق المظلم ، وطالت ليالي المأساة التي تحولت اليوم الى نكبة وكارثة يتجرع اللبنانيون من كؤوسها المرة ، فيما الحكام مستمرون بالتراشق على الحصص والنفوذ، وآفاق الخروج من المعاناة موصدة.
وها هو غبطة البطريرك الراعي يثور مع الشعب على الاوضاع المزرية ويطالب اللبنانيين ان لا ينسوا ويناضلوا ضد سبعة عشر موبقة ترتكب بحق لبنان واللبنانيين ، ولا يرى خلاصاً للبنان على يد الطبقة السياسية الفاشلة . ويدعو الى مؤتمر دولي يقرر مبدأ حياد لبنان الناشط وعدم انحيازه للمحاور المتنازعة .
هذه المواقف المستجدة تقودنا الى العودة بالذاكرة الى العام 1969 عندما عقد كمال جنبلاط بتاريخ 20/1/1969 مؤتمراً صحفياً قال فيه:
"ان لبنان بلد حيادي شاء اهله كلهم او بعضهم ام أبوا، ولهذا الحياد اللبناني مقومات اساسية يجب ان يبنى عليها:
- تبني فكرة عدم الارتباط، او عدم الانحياز لأي معسكر من المعسكرات المتنازعة.
- التعاون السياسي على قدم المساواة ، وعلى قدر الافادة والصداقة مع الدول الاخرى التي توفر لنا مصالحنا الوطنية والمادية والسياسية."
وعن دور لبنان المحايد قال:
"ان الدور الممكن ان يلعبه لبنان كبلد محايد على الصعيدين العربي والدولي لا يمكن ان يكون محايداً، فرسالته ان يسعى على الدوام لتقريب وجهات النظر، وازالة التناقضات بين العرب . وهذا يصح ايضاً على الصعيد الدولي."
فربما هذا يساعد في تبسيط الامور، ويقنع المسؤولين والسياسيين بأن التلاقي والتوافق على الحلول هو افضل السبل لمصلحة لبنان والمحافظة على كيانه السيد المستقل. وما بدأت ملامحه ترتسم حول انتشار الفوضى التي تؤدي الى الانهيار الكامل ، ليس من سبيل لانقاذ لبنان سوى التخلي عن الاهواء والمصالح الشخصية والفئوية والمحاورية ، والتحلي بالروح الوطنية والعقلانية والتوافق على تحويل لبنان الى دولة مدنية علمانية ، دولة المواطنة الحقة ، والنظام الديموقراطي القائم على اللامركزية الادارية الموسعة، المتمسكة بسياسة الحياد وعدم الانحياز .
في الذكرى الرابعة والاربعين لاستشهاد المعلم كمال جنبلاط، لابد ان نجدد العهد لفكره ونضاله ومسيرته التقدمية المتنورة.
تحية وفاء ومحبة لروحه وذكراه الطيبة .
عباس خلف
رئيس رابطة اصدقاء كمال جنبلاط