نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 68

الخميس 01 كانون الأول 2022

في ذكرى رحيل الدكتور عفيف ابو فراج الثامنة عشرة: رابطة اصدقاء كمال جنبلاط تتذكر عطاءاته، وتشارك زوجته الصديقة د. عايدة خداج ابو فراج وتنشر لها هذه الدراسة عنه

رابطة اصدقاء كمال جنبلاط تتذكر

رابطة اصدقاء كمال جنبلاط

في ذكرى رحيل الدكتور عفيف ابي فراج الثامنة عشرة

رابطة اصدقاء كمال جنبلاط تثمّن عالياً مساهمته الرصينة في الاضاءة على فكر كمال جنبلاط من خلال ما كتبه عنه:

"كمال جنبلاط: المثالي الواقعي"

"حواراته بين جدلية هيغل وجدلية كمال جنبلاط "

وترجماته

"ثورة في عالم الانسان" الى اللغة الانجليزية

"مقدمة كمال جنبلاط لكتاب "ربع قرن من النضال" الى اللغة الانجليزية"

وتشارك زوجته الصديقة الدكتورة عايدة خداج ابي فراج في هذه الذكرى ، وتنشر في مجلتها "فرح" هذه الدراسة التي اعدتها عن عطاءاته الغزيرة والقيّمة.

عفيف ابي فرّاج

(1942 – 2004)

النهضوي التنويري

في ذكراه

الثامنة عشر

عائدة خدّاج أبي فرّاج

  يتساءل الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه ويقول: هل تبحث عن الكاتب؟ ألم تسمع أن الكاتب قد مات، وأن المكتوب هو الحيّ الباقي الذي يحفر عميقاً في الوعي؟

أما نحن فنجيب: أن الكاتب لم يمت، بل هو حيّ في المكتوب، يخلع جسده فتنطلق الروح لتتجسد في الكلمات، تحييها وتحيا فيها.

  وهذا هو حال المفكر، والكاتب، والباحث، والناقد، والأستاذ الأكاديمي عفيف فرّاج، فجمر فكره ما زال يتوقد ويتوهج كأن الزمن لم يمرّ عليه الزمان، وكأن الفارس لم يترجل أو يُبرح المكان.

  كان عفيف يردد دوماً أن الحياة بعمقها وليس بطولها، وأن الأفعال العظيمة هي التي تكتب صاحبها وترسّخه في الذاكرة والوجدان، كأنه كان يعلم أن قلمه سيستريح قسراً، وأنه سيرحل قبل أن يُنهي الكلام، كان في سباق مع الزمن، منهمكاً في العطاء، يحاول أن يفرغ ما تراكم من ثقافة ومعرفة على امتداد سنوات العمر، لم يكن يعلم أن الكاتب سيصبح مكتوباً، وأن قلمه الذي أتقن رصف الكلمات سيجف مداده، وأن فكره النيّر المستنير سيغضّ الطرف عن مجريات الثقافة، وأن القدر كان له بالمرصاد، وأن مرضاً خبيثاً كان يتسلل الى الرأس في غفلة عنّا وعنه ليسرق أغلى ما لديه.

• عفيف فرّاج المثقّف العاشق للحريّة

لم يطلب عفيف يوماً منصباً أو مكسباً، كان جزءاً من جيش التمرد الكبير... شكّلت الكتابة بالنسبة اليه فعل التزام.. ظلّ أميناً لدوره كمثقف... لم يمارس سلطة ولم يقف على أعتاب. كان عاشقاً للحريّة، طليق الجناحين، وإذا ما تعارضت حريته مع إيديولوجيات الأحزاب ومجالس القبائل، كان يدير الظهر لها ويخرج من شرنقتها الى الأفق الوسيع، مردداً قولاً لجلجامش: دع عينيّ تصافحان الشمس، منبع الحريّة، تتابع بحثها عن النور – الحقيقة وعن سرّ الوجود. ومن يسعى الى الحقيقة، يترفّع عن الماديّة، والشيئيّة والفردانيّة وكل أنواع التعصب. لذلك فتح عفيف نوافذ العقل على كل المذاهب الفكريّة والعقائديّة، فكان محاوراً منفتحاً يتمتع بحسّ نقدي موضوعي، وهو اليساري النهج والتفكير.

  كان عفيف التلميذ والأستاذ والكاتب ينتمي الى الوطن بكل أطيافه ومناطقه، فلم تحدّه الجغرافيا، ولم تكبّله الطّائفيّة، فحافظ على موضوعيته ونقائه الفكري فآثر الصمت فترة الاقتتال الطائفي والشرذمة ومحاولات التقسيم. وكان يردد على مسمعي: لن أكتب لنصف الوطن، لن أكتب لغرب بيروت أو شرقها، سأنتظر وأكتب لكل الوطن. لذلك لم يجمع عفيف الى الكتابة ذلك الطقس التنظيمي الذي يقيّد الكلمة الحرّة والرأي المستقل، فلم يلتزم عفيف بالأحزاب، على يساريتها وعلمانيتها الّا لأشهر معدودة، ليحلّق طليقاً، يطارد الكلمة الحق حيثما كانت.

  كان عفيف، كأستاذ في التعليم الثانوي الرسمي يتنقّل بين ثانويات بعقلين والأشرفيّة وعمر فروخ، يغرس عقول تلاميذه ببذار المعرفة وحب الحريّة والديمقراطية والمساواة. وعفيف الحائز على دكتوراه دولي في الأدب المقارن وعلم الثقافات، تابع مسيرته ورسالته التربويّة أستاذاً لمادة دراسات حضارية، ومجتمع وفكر، والأدب الإنجليزي والعالمي، والعلوم الإنسانيّة، والحضارة العربيّة الاسلاميّة والترجمة، متنقّلاً بين الجامعة اللبنانيّة – الفرع الأول، جامعة الوطن الجامعة لأبنائه، وجامعة البلمند شمالاً، والجامعة اللبنانيّة الأميركيّة في صيدا جنوباً، وجامعة الحريري – الكنديّة شوفاً، والجامعة الإسلاميّة ساحلاً، أي على اتساع خارطة الوطن.

 وعيّن عفيف منذ العام 1992 رئيساً لمكتب العلاقات الخارجيّة ومركز البحوث من قبل رئاسة الجامعة اللبنانيّة الى أن أقعده المرض في العام 2003. وانتُخب منذ العام 1976 ولأربع دورات متتالية عضواً إداريّاً في اتحاد الكتّاب اللبنانيين ورئيساً للجنة الثقافيّة، وشارك في العديد من المؤتمرات داخل لبنان وخارجه. وختم مسيرته التربويّة مديراً لكليّة التربيّة – الفرع الأول حتى أدركته المنون قبل عامين من سن التقاعد سنة 2004.

• عفيف فرّاج المفكّر والباحث: ثوريّة تتنافى والعصبيّات الوثنيّة

أمّا عفيف فرّاج المفكر والكاتب والباحث، فكان وتراً مشدوداً عنيف الإيقاع، تتمازج فيه شراسة الرفض وشراسة الحوار. رفد الثقافة الوطنيّة بدم جديد وثوريّة دائمة تتنافى والوثنيّة الفكريّة والعصبيّات الهدّامة. لقد عاف التملك كي لا يمتلك، وعاف السلطة كي لا يُؤتسر، فأقام في بيت الفكر المنفتحة نوافذه على الشمس والريح، يجاهر بأفكاره اليساريّة التقدميّة في وجه من يحاول تكميم كلمته.

  كان يقرأ بشغف كأن متع الدنيا كلها انحسرت في كتاب، يبحث عن فكرة جديدة في ثنايا المعرفة يغني بها الثقافة. كتب في التاريخ، والفكر، والثقافة، والحضارة، والفلسفة، والدين، وعلم النفس، والتربيّة، والنقد الأدبي، والقضايا السياسيّة الوطنيّة والقوميّة والأمميّة الكبرى بأفكار بكر هي ثمرة اختمار طويل من القراءات، والتأمل، والمعاناة، والاستشراف.

  ينتمي عفيف فرّاج الى جيل المثقفين الذين عاشوا انتصارات الثورات التقدميّة الكبرى وشهدوا انكساراتها المدوية، وواكب نشوء الأحزاب العلمانيّة الوطنيّة والعربيّة. وهو من جيل أدماه جرح فلسطين النازف والسخين حتى الساعة، وعاش تداعيات هزيمة حزيران 1967 المخزية، فعاش الأمل وذاق مرارة الإحباط وعلقم التخاذل العربي في آن.

 في هذا الإطار التاريخي والسياسي العام، شقّ عفيف طريقه ككاتب ومثقف يساري علماني، نهضوي وتنويري، فخرج من آتون العصبيّات الى واحة الفكر متحرّراً من أي سلطة تحاول عقل عقله. فاعتلى مختلف المنابر الثقافيّة محاضراً، وتصدّرت مقالاته وأبحاثه الصحف والمجلات كاتباً. بدأ كتاباته الأولى في مجلّة الطريق، ثمّ انتقل الى اليسار الجديد ليكتب في مجلة الحريّة، ثمّ في مجلة دراسات عربيّة، ومجلة البلاغ، ومجلة الأسبوع العربي، ومجلة الفكر التقدّمي، ومجلة الآداب، وتصدّرت كتاباته غلاف ملحق النهار العربي والدولي، وواكب نشوء ومسيرة جريدة السفير، وكتب الكثير من المقالات في جريدة الأنباء وجريدة الحياة.

ليس من السهل الإحاطة بفكر عفيف فرّاج في مساحة ضيّقة لغزارته وتنوعه. وقد شكّلت كتبه الأربعة عشر محطات فكريّة وازنة في الثقافة العربيّة، صدر له منها ستة قبل رحيله، وثمانية بعد غيابه.

• دراسات يساريّة في الفكر اليميني

شكّل كتاب دراسات يساريّة في الفكر اليميني (دار الطليعة، 1970) باكورة كتبه التي موضعت عفيف كواحد من جيل الأنتلجنسيا اليساريّة بكل نقمتها وطموحاتها، وتمرّدها على المتركد من الأفكار والممارسات. وركّز فيه على الحركات الطلابيّة العالميّة الطامحة الى التغيير وموضعها بين الانحطاط الرأسمالي والانحراف الشيوعي، وعلى تداعيات هزيمة الخامس من حزيران التي كشفت هشاشة الأنظمة العربيّة وركاكتها، وعلى التشوّه البيروقراطي والاقتصادي للاشتراكية السوفياتية متنبئاً بانهيارها وسقوطها.

  وقد تضمن الكتاب دراسة مطولة بعنوان الأستاذ جنبلاط مثالي جديد يتجاوز الماركسيّة بفكر عتيق، ما استفزّ بعض الشباب الذين قصدوا المعلم يشتكون عفيف، فأجابهم: يا عمّي، نحن بدنا شباب يفكروا ويكتبوا، حلّو عنّو خليه يكتب متل ما بدو. هذه كانت ديمقراطية كمال جنبلاط الذي آمن بالنخبوية الفكريّة.

وبقي هاجس الحريّة يطارد عفيف الكاتب، فجاء كتابه الثاني الحريّة في أدب المرأة (مؤسسّة الأبحاث العربية 1975 وط 3 1985)، ليشكّل ظاهرة ثقافية على مستوى العالم العربي، وعملاً رائداً في بابه، تناولته الأقلام في عدد من البلدان العربيّة وأقيمت حوله الندوات. تناول الكتاب الإنتاج الأدبي النسوي ومفهوم المرأة لحريتها كجزء من اهتمام عفيف بالإنسان المستَلَب الإرادة والحقوق، متصدّياً للمفكرين الذين وصفهم بالجلادين الذين حكموا على المرأة بالقصر العقلي الذي يتطلب وصاية ذكريّة راشدة. وقد تضمن الكتاب دراسات نقدية لنتاج روائيات رائدات، ولعدد من الروائيات المبتدئات اللواتي شكّلن ظاهرة ثقافية نمت مع انتشار الفكر اليساري في لبنان والعالم العربي في أواخر الستينيات. ويخلص عفيف الى القول: ان البطلات النسائيّات يعانين في غالبيتهن العظمى ضموراً في همومهن الإنسانيّة والاجتماعيّة والفكريّة، ما انعكس سلباً على فهمهن للحريّة. لقد حلّقت معظم بطلات الروائيات بأجنحة شمعيّة طريّة، أذابتها شمس الحريّة الحقيقيّة، وتهنّ في البحث عن الخلاص في المكان الخطأ، وهربن من الرجل وعدن اليه كقدر محتوم، مع استثناءات قليلة في هذا المضمار.

• اشتراكيّة كمال جنبلاط الأكثر انسانيّة

وحلّت الكارثة الكبرى في 16 آذار من العام 1977، واغتيل كمال جنبلاط واغتيل معه حلم الشباب اليساري بالتغيير، وكذلك البرنامج المرحلي للحركة الوطنيّة الذي أرهب الزعامات العشائريّة والطائفيّة والاقطاعيّة في الداخل، وشكّل خطراً داهماً، في حال تحققه، على الأنظمة العربيّة التوتاليتاريّة والأوليغارشيّة والعسكريّة، فكان ما كان. شعر عفيف بفداحة الخسارة، وشكّل اغتياله المدوي حافزاً له كي يقرأ فكر كمال جنبلاط ويتعمق في أبعاده الفلسفيّة والانسانيّة، ويكتشف سرّ هذا القائد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فصدر كتابه كمال جنبلاط: المثالي الواقعي (دار ابن خلدون – 1977 في طبعتين متتاليتين، ثمّ عن الدار التقدميّة من ضمن مجموعة كمال جنبلاط الكاملة)، الذي يخلص فيه الى قناعة مفادها أن اشتراكيّة كمال جنبلاط هي الأكثر إنسانيّة من الأنماط الاشتراكيّة السائدة التي شوهتها البيروقراطيّة. ويتناول الكتاب فكر كمال جنبلاط المتمفصل على المعرفي والعرفاني والفلسفي. فغاص الكاتب الى عميق فكر المعلم متابعاً جدليّة المثالي – الواقعي المتجذرة في فلسفات الشرق القديم، ورؤيا أفلاطون المثاليّة، وفلسفة فيتاغوراس وطاليس وهيرقليطس، وفكرة التوحيد الفاطميّة الاسماعيليّة، وفلسفة هيغل وصوفيته العقليّة والجدليّة. كان هم كمال جنبلاط وشاغله هو متابعة تجلي الفكر في الواقع، والارتقاء بالواقع الى مصاف المثال على قاعدة الجدليّة الأساس جدليّة الخير والشر، والنور والظلمة.

  وأقام الكاتب حواراً بين جدليّة هيغل وجدليّة كمال جنبلاط، وعرض لعلاقة فكره بالماركسيّة، ومحاولته فرض الفكرة الأخلاقيّة على التاريخ. وتناول رؤياه الحضاريّة القائمة على إيجاد بديل حضاري لخلق المواطن الحرّ، والشعب السعيد، والانسان الاشتراكي القانع مادياً حتى التقشف، والمتطلب علميّاً ومعرفيّاً حتى الجشع، والساعي الى الجمعنة في الكوكبة. ويخلص عفيف الى القول: أنّ الغاية والحتميّة لدى جنبلاط، هي هيغليّة يساريّة، ترى في الاشتراكيّة طريقاً حتمياً لهذه الغاية.

وفي العام 1990، استحضر عفيف مجدداً انسان جنبلاط الذي حاول خلقه على مثاله، فترجم كتابه ثورة في عالم الانسان الى الإنجليزية (الدار التقدميّة – 1990)، وترجم كذلك مقدمة جنبلاط لكتاب ربع قرن من النضال، ولكنه لم ينشر حتى الساعة.

• التوحيد في مرايا أخناتون وهرمس الهرامسة

في العام 2000 شارك عفيف في اصدار كتاب دراسات في التوحيد (دار إشارات 2000)، وكان له دراستان وازنتان حول التوحيد ثورة ثقافيّة قائدها أخناتون، والمسار الاشراقي من هرمس الى أفلاطون، قلّب فيهما عفيف صفحات التاريخ القديم، مسلّطاً الضوء على التوحيد الفلسفي الذي سبق الأديان الابراهيميّة، وما زال قائماً كتيار فلسفي توحيدي حتى يومنا الحاضر. تناول عفيف الثورة التوحيديّة الثقافيّة الأولى في التاريخ على يد الفرعون أمنحوتب الرابع – أخناتون الذي أبطل أسطورة الآلهة المتحجرة، المستبدة، والمتحكّمة بمصائر البشر وإله أخناتون هو إله رؤوف، ربّ الرحمة وينبوع دين المحبة، هو نور الشمس - الحقيقة الذي يوحّد بين الجميع ويساوي بين مخلوقات الله برمتها.

ثمّ يستحضر عفيف هرمس الهرامسة واضع شرعة العرفان، ربّ الكلمة البدء، ومخترع اللغات، ومبدع الكتابة، وأول من أسّس فلسفة دينيّة، أخذ بها كل من الفلاسفة اليونانيين: أورفيوس، وفيتاغوراس، وأفلاطون، وسقراط، وطاليس وهيرقليطس.

• اليهوديّة بين ثقافة الشرق وسياسة الغرب

أما الكتاب الذي فتح الباب على مصراعيه ليكرّس عفيف فرّاج كمفكر على مستوى العالم العربي، والذي احتل مرتبة أفضل كتاب في العالم العربي للعام 2003 من حيث الموضوع ومنهجيته العلميّة، وكان الأكثر مبيعاً في معرض بيروت العربي والدولي للكتاب في نفس العام، هو كتاب اليهوديّة بين حضانة الشرق الثقافيّة وحضانة الغرب السياسيّة (دار الآداب -–2002). وقد عرض فيه الكاتب المكوّنات الشخصيّة لليهوديّة التي تخضع المبادئ والقيم للمصلحة الماديّة الشخصيّة، وتجعل المال ليس فقط سلعة السلع، إنما قيمة مطلقة ومعياراً شمولياً تقاس به الأشياء والبشر المشيؤون. ويبحث فيه الكاتب في أسباب بقاء اليهودي شرقياً مُستبعداً في الغرب، ليتحول الى غربي كولونيالي مُستبعداّ الفلسطيني في أرضه في الشرق. في الغرب فُرض الغيتو اليهودي فرضاً حيث تنامت الروح اليهودي الديني القومي في المعازل، فأصبحت الأرض هي الفردوس الموعود الذي وعدهم به الربّ – الإله العبري، فوضعوا نصب أعينهم أرض الميعاد، أرض فلسطين التي حوّلوها ال غيتو حشروا فيه الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين.

ان الغرب الأوروبي، وعلى اختلاف أنظمته القيصرية والرأسمالية والفاشية، ساق اليهود الى فلسطين، وأفرغ حمولته الزائدة على شواطئها، وحوّلها الى وطن بديل عن أوطانهم الأوروبيّة الأصليّة. فدفعت أوروبا المشروع الصهيوني الى التشكل في تاريخ وجغرافيا يعاكسان مجرى التاريخ والجغرافيا. لذلك عقد هيرتزل عهداً جديداً (كما فعل اليهود مع يهوه إله البركان والعاصفة)، مع الإله الإمبريالي الذي وعد بأن يعطي اليهود أرض فلسطين مقابل أن يكون اليهود جزءاً من السور الأوروبي ضد آسيا، ومخفراً أماميّاً للحضارة في وجه البربريّة.

• آينشتين: الفيزيائي الصوفي

ان اهتمام عفيف باليهوديّة ساقه الى إصدار كتاب جديد حول رؤية آينشتاين لليهوديّة ودولة اليهود (دار الآداب 2003)، فتعمّق في فكر العالم الفيزيائي – الانسان، صاحب نظرية النسبيّة ألبرت آينشتاين ((1955 – 1879، وصاحب الرؤية الحضارية والتربويّة، والمكافح من أجل السلام العالمي، والمعادي للتسلح والعسكرة وقانون التجنيد الإجباري، والعاشق لفلسفة سبينوزا التوحيديّة الحلوليّة، والمتمسّك بالمبادىء الأخلاقيّة الكانطيّة، وبالثقافة اليهوديّة.

وخلافاً للاعتقاد اليهودي بحصريّة الإله الإسرائيلي، آمن آينشتين أن الله لا يفاضل بين الشعوب، ولا يوقع عهداً مع شعب دون سواه، ولا يفرّق بين شعوب الأرض، ولا يصطفي جماعة دون أخرى، وليس له شعباً مختاراً. ثم يقول: أنا يهودي، لكني لست من المختارين... وأنّ الإله الشمولي الذي يرتدي جسد الكون، لا يمكن أن يكون إلهاً قوميّاً أو مليّاً.

وينتقد آينشتين مثنويّة الأديان السماويّة الثلاثة التي فصلت الله عن الطبيعة وتعالت به عن الكون والبشر، وموضعته خارج العالم، فيقول: أنّ الله هو في الداخل وفي الخارج، في الانسان والمكان والزمان. وان الكون يومئ إليه مثل منارة تدعوه الى تحرير نفسه من نفسه. وتعالى عن المناصب، وزهد بالثروة والشهرة وهذا ما يثبته رفضه لمنصب رئاسة الدولة العبريّة. وقطع علاقته بالجماعة اليهوديّة، وقال: لا علاقة لي بإسرائيل. ولم يبق في الجبّة إلّا عالم الفيزياء الذي سرح خياله في كون بلا حدود، لينتج عام 1905 نظريّة النسبيّة التي شكّلت انقلاباً في نظرة الانسان الى هذا الكون.

  وكان القدر له بالمرصاد، فرحل عفيف فرّاج وهو في عزّ اخضرار عطائه، بعدما توقف نبض الجسد وعاء الروح، وبعد معاناة طالت لتتجاوز السنة في 19/11/2004، فلم يمتلئ من العالم ولا امتلأ هذا منه، تاركاً بين يدي كتابين غير منجزين، وعشرات الأبحاث العاصفة بالأفكار وتنوع حقوله المعرفية. فقطعت على نفسي عهداً، يوم ذكرى أربعينه أن أُنجز ما لم يُنجز، وأجمع دراساته الوازنة في كتب، وأن أترجم ما أعجم. وهكذا كان، فكان أول الغيث بعد رحيله كتابه:

إشكاليّة النهضة بين الليبراليّة الإغترابيّة والإسلاميّة الاجتهاديّة الذي تركه دون مقدمة أو خاتمة أو حتى عنوان. لذلك استعنت بصديقه المفكر الكبير الدكتور صادق جلال العظم كي يكتب المقدمة، واستعضت عن الخاتمة ببحث يتلاءم ومضمون الكتاب.

  لقد هجس عفيف بموضوع النهضة العربيّة وآلمته إخفاقاتها، وهو النهضوي بامتياز، والمنفتح على شتى التيارات والمذاهب الفكريّة. قارب عفيف الفكر النهضوي من باب التحاور والتكامل لا التنافي، قائلاً: إنّ أهم إشكاليّات الحقبة الليبراليّة التي وُصفت بالنهضة هي في تنافي التيارين الإسلامي – الإصلاحي من جهة، والراديكالي الليبرالي من جهة أخرى، فكانت النهضة ضحيّة هذا التنافي. والمطلوب كان تجاوز هذا التنافي الى فلسفة نهضويّة تعيّن القيم العربيّة والإسلاميّة المميزة لشخصيتنا الحضاريّة، وتُستكمل بنسيج ثقافي عالمي يحاك حول نواتها الصلبة. وسأكتفي بالقليل مما كتبه الدكتور صادق جلال العظم في مقدمة الكتاب، قائلاً: تناول عفيف فرّاج عصر النهضة بروح نهضويّة حقيقيّة، وبمنهجيّة حسّاسة أعادت له واقعيته التاريخية الملتبسة كعصر انتقالي... وتميّز الكتاب بالمنهج الاستقرائي المنفتح، مبتعداً كل البعد عن أسر أي من هذه العناصر داخل نطاق أية منظومة فكريّة وحيدة الجانب. ترك عفيف الوقائع والوثائق تقوده الى حيث تريد وليس الى حيث يريد لها أن تذهب، لحقها هو بدل أن يُلحقها بأناه... وترك الحريّة للقارئ ليتوصل هو الى أحكامه واستنتاجاته.

• عفيف فرّاج يعيد الحضارة الى جذورها الشرقيّة

أما كتابه الثاني بعد رحيله فكان تحت عنوان الجذور الشرقيّة للثقافة اليونانيّة (الآداب 2007). بدأ عفيف البحث في موضوع الكتاب قبل أربع سنوات من رحيله. وقبل أن يُنجزه ويجمع فصوله جاءني بأوراقه التي تنوء بحملها، ليقول: احتفظي بالأوراق حتى يحين وقتها. لقد فاتني أن مضمون الكتاب هو من صلب المواد التي أعلمها في الجامعات، فلن أسمح أن يُقال أنّ عفيف فرّاج تاجر ثقافة، وأنه يتوخى الكسب المادي عن طريق بيع الكتاب لطلابه.

لملمت الأوراق على مضض، وكان من نصيبي أنا أن أنهي وأصدر الكتاب في العام الذي كان من المفترض أن يكون عام تقاعده، وفاءً لرغبته.

  حاول عفيف تجذير الثقافة اليونانيّة في تربة بلاد ما بين النهرين، ضاحضاً للفرضيّة المضادّة التي تدعي أن اليونان هي بداية التقليد الثقافي الغربي، وأن هوميروس هو الجدّ الأول للثقافة الغربيّة.

حاول عفيف أن يعيد الحضارة الإنسانيّة الى حاضنتها الشرقيّة، استناداً الى واقع مسار الحضارات، فأجرى بحثاً ثقافياً مقارناً ومعمقاً يظهر المؤثرات الثقافية الشرقيّة على الثقافة اليونانيّة أدباً وفلسفة وعلماً. وبما أن ملحمة جلجامش هي أول الأعمال الأدبيّة الكاملة في تاريخ الأدب العالمي، وملحمتي الإلياذة والأوذيسة هما أول الأعمال الأدبيّة اليونانيّة الكاملة، لذلك ركّز عفيف بحثه على المقارنة بين الملحمة السومريّة الأقدم والملحمة الهوميريّة التي تعكس مؤثرات الحضارة السومريّة – الأكاديّة على الحضارة الغربيّة. ويشكّل هذا الكتاب مدخلاً تأسيسياً يظهر تواصل العصب الثقافي الشرقي من هوميروس الى شكسبير، مروراً بالتراجيديين اليونانيين سوفوكليس وأسخيليوس. كما يظهر كذلك أثر الديانات والفلسفات الشرقيّة من مصريّة وفارسيّة وهنديّة وصينيّة على الحضارة الغربيّة مروراً بكبار فلاسفة اليونان، أفلاطون، أرسطو، وهيرقليطس وغيرهم الكثير.

• عفيف فرّاج وثنائية شرق - غرب

 ثمّ صدر كتاب عفيف الثالث بعد رحيله تحت عنوان ثنائيّة شرق – غرب (دار الآداب - 2008) وهو كناية عن أبحاث معمقة في هذا المضمار يجمع بينها وحدة الموضوع، ولكنها كتبت في فترات زمنيّة مختلفة.

لقد شغل موضوع ثنائيّة شرق – غرب الراحل منذ بداياته ككاتب، فتابع مسار هذه الثنائيّة بدءاً بهيغل، أقدم مؤسسي مفهوم الاستبداد الشرقي.

حاول عفيف تبيان ما يمارسه المؤرخون الليبراليون الغربيو الانتماء والمستشرقون من إقصاء وانتقاص لتاريخ الشرق الحضاري، ويصفونه يالدوني، والبربري، والعنفي، والحواسي، والاستبدادي والغيبي كما يدعون، صورة تتناقض وماهيّة الغرب العقلانيّة الحضاريّة، وذلك من منطلق عرقي شوفيني واستعلائي، متجاهلين الحقبات الاستعماريّة الغربيّة التي قامت على العنف والاستغلال والاستبداد.

  وتتبدى ثنائيّة شرق – غرب جليّة في انحياز هيغل للغرب الثقافي، واعتباره أن هذه الثنائيّة هي رديف للثنائيّة القديمة: يوناني – بربي، وروماني – بربري، وهي ثنائيّة السيّد بالقوة والفعل، والعبد التابع في الجوهر والواقع، ويقول: أن الشرقي منخطف بالشمس الخارجيّة التي تعميه عن شمسه الداخلية، شمس الوعي. والغرب هو مستقر الشمس الآيبة من الوجود الى الماهيّة، أي من الخارج الى الداخل. وان أسطورة العنقاء التي تبعت من رمادها هي أسطورة شرقيّة تتصل برؤية دائريّة لتاريخ يُعيد نفسه. ولأن حركة التاريخ عند هيغل هي لولبيّة وليست دائريّة، فإن شمس العقل لا تعود لتشرق من الشرق في دورة جديدة.

  أما الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، فطروحاته طاردة للشرق من تجليّات الروح الحر، وهي التي تحدد وعي الشرقي بالدين الطبيعي، وتغرب روحه في الخارجي الحسّي، وتعطل ارادته السياسيّة وابداعيته الجماليّة الفنيّة والعلميّة باستبداديّة السلطان الشرقي الواحد المتحد بالله.

  أما المؤرخ الأميركي بول كنيدي، فهو يكتب التاريخ بأسلوب المثنويّة الحضاريّة التي تنقسم فيها الثقافات والديانات بين عالم شرقي وعالم غربي. ويعتبر كنيدي أن النسق الثقافي الغربي هو النمط الانسانوي الوحيد المؤهل للعالميّة. ويدعو دول العالم الثالث الى مفارقة دياناتهم وثقافاتهم، وتتمثل بقيم الحداثة البورجوازيّة الغربيّة.

 وفي موقف مضاد للمؤرخين الشوفينيين الغربيين، وعلى جذر ماركسي، يبني روجيه غارودي، الفيلسوف الفرنسي الذي اعتنق الإسلام، نقده للغرب بوصفه أمّ الأصوليّات كلها. وهذه النزعة الأصوليّة هي عقدة التفوق الغربيّة التي تمظهرت في غزوات استعماريّة عديدة، آخرها حرب الخليج.

  أما نصوص أدوار سعيد الاستشراقيّة، فتنتقد الغرب الذي حوّل المعرفة الى قوة، ووظّف الثقافة جارية تسعى الى خدمة السياسة، وحدد دائرة الحضارة داخل القارة الأوروبيّة وتعامل مع الآخر تعامل الذات مع الأداة. ويتشارك أدوار سعيد وفانون الرأي أن الامبرياليّة قد دفنت ثقافة مجتمعات ما قبلها، وان مهمة المثقف التحرري هي إعادة نبش هذه القيم الحضاريّة واستنقاذها وذلك لبناء مجتمعات أكثر فرحاً، وأقل جريمة وأميّة ومرضاً وبطالة وعنصريّة.

• عبد الناصر في مرايا كمال جنبلاط

وقد صدر للراحل عفيف كتاب آخر وفي نفس العام بعنوان في السياسة والأدب السياسي (دار الآداب – 2008).

تضمن الباب الأول من الكتاب ابحاثاً عن شخصيّة مصر وشخص عبد الناصر، والرؤية الثوريّة لكمال جنبلاط، وعن علاقة الزعيمين العربيين اللذين لمعا كشهابين في تاريخ الأمّة العربية، واللذين شكل حضورهما وغيابهما مراحل مفصلية في تاريخنا المعاصر.

يعرض الكاتب لعمر مصر الحضاري الذي يداني السبعة آلاف سنة وتكونها السياسي الاجتماعي في ظل دولة مركزية في القرن السادس عشر قبل المسيح.

ويذكر الكاتب ان مصر التي عصت على الثقافة الفارسية وعلى الهيلنة والرومنة، أسلمت نفسها دينيّاً وعسكريّاً وثقافيّاً للعرب المسلمين لتتلافى مع ذاتها.

ومع شخص وقيادة عبد الناصر، تعود مصر لتعيد تاريخها المجيد، فيتكرس موقع مصر في تقاطع الدوائر الثلاث: العربيّة، والافريقيّة والإسلاميّة. ويضيء عفيف على المراحل المشرفة في مسار عبد الناصر، من مؤتمر باندونغ، الذي دعت اليه الصين والهند وأندونيسيا عام 1955 وقيام كتلة عدم الانحياز، الذي خرج منه عبد الناصر قائداً كبيراً للعالم الثالث ليحرك الشرق ضد مشاريع الأحلاف العسكريّة الأميركيّة. واستثمرت مسيرة عبد الناصر التصاعديّة بعد كسر مصر عبد الناصر احتكار الغرب للسلاح ووقعت على صفقة الأسلحة الشهيرة مع تشيكوسلوفاكيا، والتحالف المصري السوري – السعودي في وجه حلف بغداد، ومعركة قناة السويس والوحدة السوريّة المصريّة.

ويعرض الكتاب ايضاً لرؤية كمال جنبلاط الخلاصيّة في كتابه ثورة في عالم الانسان الذي يمكن اعتباره بمثابة البيان الاشتراكي الإنساني، والذي يشير فيه جنبلاط الى الخلل التاريخي في الثورات البورجوازيّة والاشتراكيّة التي حولت الحلم الى مآسي، فيقدم البديل وهو رؤية ثوريّة تقوم على ثورتين: ثورة داخل الوعي الذاتي تحرر العقل من الغرائز. وثورة في العالم الظاهر يعيد فيها الانسان خلق البنى السياسية - الاقتصاديّة التي تسمح للروح ومثالاتها بالتفتح في بيت جماعي لا تدخله رياح التنافس والجزع الاجتماعي. ويغلب جنبلاط الثقافي- المعرفي على السياسي، ويؤلف بين السياسة والمعرفة على طريقة أفلاطون في شخص الحكيم-الحاكم، وجدليّة جنبلاط هي جدليّة عقليّة سقراطيّة يتنافى فيها الخير والشر، ومبدأ النور العقلي مع مبدأ الظلمة الغرائزي.

وجديد الكتاب هو رصد الكاتب للعلاقة بين كمال جنبلاط وعبد الناصر، وتماهي الاثنين وطنياً وعروبيّاً وانسانيّاً وفلسطينيّاً. بعد زيارة جنبلاط لعبد الناصر عام 1955، اخذ يماثله برعمسيس الثاني، وعمر بن الخطاب، وصلاح الدين، وأنه يجمع بين محبة الناصري وعدالة محمد. ويرسم جنبلاط قديسه وسط هالة على صورة مثالات ذاته.

أما الباب الثاني فهو في الأدب السياسي، ويتناول مواقف أمين الريحاني ونجيب عازوري وسليم خياطة من القضيّة الفلسطينيّة. فقد حذّر الريحاني من مخاطر الصهيونيّة، وطالب بريطانيا بتمزيق وعد بلفور، محذراً اليهود من القفز الى نار العرب والمسلمين، وأشار الى ان التقدم الحضاري لا يعطي الصهاينة الحق في اغتصاب الأرض وطرد العرب.

وتحسس سليم خياطة الخطر الصهيوني المحدق بفلسطين، واعتبر أن الصهاينة هم الوجه البربري الاستعماري للغرب الحضاري، وليسوا سوى نسخة متجددة للصليبيين القدامى، وهيجة غرائزيّة دينيّة عمياء تسعى الى اصطناع دولة باسم اسباط نصف متوحشة اندثرت منذ ألفي سنة. اما نجيب عازوري الموزع بين مسيحيته وعروبته فاعتبر ان اليهودي هو المنافس التجاري المالي للمسيحيين، لذلك يجب مواجهته واقصاءه من هذه المنافسة.

• المرأة بين الفكر والإبداع

لقد شكل اهتمام عفيف بقضيّة المرأة ودفاعه عن حقوقها جزءاً لا يتجزأ من اهتمامه بقضايا الإنسان المُستَلب الحقوق والإرادة، فصدر له كتابه الثاني حول قضايا المرأة بعنوان المرأة بين الفكر والإبداع (دار الآداب – 2009).

أعتبر عفيف ان قضيّة المرأة هي قضيّة اجتماعيّة لا يمكن الفصل بينها وبين القضايا الإنسانيّة الأخرى، وليست قضيّة جندريّة فقط كما يشاع، لذلك تابع دراسة مسار قضيّة المرأة في الفكر العربي وتياراته المختلفة والمتباينة. ولما كانت المرأة عقلاً للإبداع وليست جسداً للاستهلاك، قام بدراسة المسار الإبداعي للمرأة العربيّة عامة وللمرأة اللبنانيّة خاصة.

يتمحور الباب الأول من الكتاب حول موقف المفكرين العرب من قضيّة المرأة الذين وضعهم في ثلاثة تيارات: التيار الليبرالي الذي طالب المرأة العربيّة التمثل بالمرأة الغربيّة المتحررة، وقد ضمّ بين صفوفه الليبراليين أنصار التحديث على الطريقة البورجوازيّة، أمثال لطفي السيّد وطه حسين، والاشتراكيين أمثال سلامة موسى وشبلي الشميّل وفرح أنطون وغيرهم.

أما التيار الثاني فهو التيار الميتافيزيقي المغرق في رجعيته، يقاوم تحرر المرأة بالأفكار نفسها التي سادت عصور الظلمة، وفي مقدمة هذا التيار عبّاس محمود العقّاد وسيّد قطب وعلي وافي وأحمد شبلي وغيرهم من الأزهريين المتزمتين. أما التيار الثالث فهو التيار التوفيقي الذي سعى الى إصلاح وضع المرأة والأمّة عن طريق التربية والتعليم، وعن طريق تطوير الشرع والإجتهاد في الدين. وأبرز رموز هذا التيار الطهطاوي وقاسم أمين ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا والأفغاني وجميل بيهم وغيرهم.

أما الباب الثاني من الكتاب فيتناول المسار الإبداعي للمرأة بدءاً بالأديبات والصحافيّات الرائدات خاصة اللبنانيّات منهن اللواتي كنّ الأبكر حضوراً من شقيقاتهن العربيّات في حقول الإبداع الأدبي، وأنهن صاحبات الإرهاصات الروائيّة والقصصيّة والمسرحيّة والصحافيّة الأولى. وقد تضمن هذا الجزء من الكتاب موضوعة المرأة والحرب كما رسمته الأديبات بأقلامهن، وذلك للتأكيد من جديد على أن المرأة ليست جسداً للاستهلاك، إنما عقلاً مبدعاً، ومنتجاً، ومتعطشاً للحريّة الإنسانيّة. وفي هذا الإطار ينهي عفيف الكلام بالقول:

أنّ المطلوب هو امرأة عاقلة، محصنة بحريّة عاقلة، سالكة طريقين لا ثالث لهما: طريق المساهمة في الإنتاج، عندها فقط تحقق إنسانيتها الكاملة غير المنقوصة.

• القمع السياسي وجذوره التاريخيّة

أما كتاب القمع السياسي وتجلياته في نماذج مختارة من الرواية العربيّة الحديثة (دار الآداب 2013) ترجمة عائدة خداج أبي فرّاج وطارق عفيف أبي فرّاج، فهو رسالة الدكتوراه التي كتبها الراحل باللغة الإنجليزية.

يبحث فيه الكاتب في ظاهرة القمع السياسي الضاربة في عميق التاريخ منذ ساد الإنسان أخاه الإنسان، فيطارد الظلم أينما كان ومن أية جهة أتى. ثم يقلب عفيف صفحات أدب السجون ليلقي الضوء على المظالم والعذابات التي ذاق علقمها الأحرار، أبناء الحريّة.

في الباب الأول من الكتاب يحاول الكاتب نبش الجذور التاريخيّة للنظرة الغربيّة الإستعماريّة والانتقاصيّة للشرق والعودة بها الى بدايات الصراع القديم والمستمر منذ اليونان القديم حتى أوروبا الإمبرياليّة الحديثة. لقد نسب الغرب القمع الى الشرق، وعبّر عنه بمصطلحات ذات مضامين ثقافية – عرقيّة انتقاصيّة مثل الاستبداد الشرقي، والهمجية الشرقية والطغيان الشرقي، ليؤكد ضمناً أن الحريّة هي امتياز يعود حصرياً الى الغرب. فكما اتخذ الإسكندر الهيلنة – الثقافية قناعاً لإخفاء أطماعه الإستعماريّة، واصفاً كل ما يقع خارج إمبراطوريته بـــ الهمجي والبربري، فان بارونات القرون الوسطى اختاروا النصرنة قناعاً لحملاتهم العسكريّة الدمويّة ضد العرب والمسلمين تحت إسم الحروب الصليبيّة. وتشبهاً بأسلافها أخذت البورجوازيّة الأوروبيّة على عاتقها مهمة تمدنيّة، حاملة سيف المستعمِر بيد، وبشارة التقدم الحضاري باليد الأخرى، وذلك لتسخير العالم المتخلف لمصالحها، ولفرض العبوديّة والرّق والعمل المأجور بيد حديديّة قمعيّة، بحجة أن لا وجود لحضارة خارج أوروبا.

أما الباب الثاني من الكتاب، فيعرض مفهوم الحريّة في الإسلام القائم على التوحيد والمساواة والعدل حسب النص الديني، لكن سرعان ما تحولت السلطة في الإمبراطوريّة الإسلاميّة بعد انقضاء حقبة الخلفاء الراشدين الى سلطة أوليغارشيّة تسلطيّة غابت عنها المؤسسات الديمقراطيّة، وانعدام مبدأ الشورى، ليحل مكانها مبدأ الوراثة بعدما أصبح للخليفة الإسلامي هالة من القداسة والسلطة التي يستمدها من الله، على غرار ملوك أوروبا.

وفي القسم الأخير من الكتاب يورد الكاتب نماذج روائيّة من أدبيات السجون تروي قصص السجناء، وقصص القمع والاضطهاد، قصص العسكري الأسود الذي يستبيح الحرمات، ويضرب ويجلد، يلاحق ويغتصب، يعنّف ويأكل اللحم الحيّ. وتعتبر رواية الأقدام العارية لطاهر عبد الحكيم أهم وثيقة تاريخيّة سجلت عذابات السجناء الشيوعيين والمثقفين بين عامي 1959 و1964 في السجون المصريّة.

ويخلص عفيف الى القول: ليس القمع السياسي ميزة حصريّة لبلد أو عرق أو دين أو منطقة جغرافيّة، لأنه مرتبط بماهيّة السلطة القمعيّة، وبالاستغلال الاقتصادي الذي يستتبع تبعيّة المٌستغَل للمٌستغِل، لذلك فان القضاء على الأساطير العرقيّة الحضاريّة هو بداية الطريق، والحوار الحقيقي بين الحضارات ينتظر نهاية الإمبراطوريات والسياسة الإمبرياليّة التي تشكل الرحم الحاضن والخصب للإيديولوجيّة العرقيّة.

أما كتاب الراحل ما قبل الأخير دراسات في الفلسفة، الفكر، الدين، السياسة، الثقافة، والأدب (دار الفارابي – 2014)، فقد صدر في إطار كتاب السفير لتزامن صدوره والذكرى الأربعين لتأسيس جريدة السفير، وإصرار صديق عمره طلال سلمان على إصداره هو شخصياً وفاءً لصديقه عفيف الذي واكب السفير منذ بداياتها.

لقد امتشق عفيف قلمه ليكتب عن مفكرين وكتاب نخبويين شغلوا المسرح الثقافي على امتداد عقود من الزمن. وعفيف السابح في بحور المعرفة، يقتفي آثارهم ونتاجهم الفكري، يغوص باحثاً عن مآثرهم ليسبر أغوارها، باحثاً عن لآلئ الفكر المكتنزة داخل اصدافها.

يستحضر عفيف وجوهاً قد رحلت، وأخرى مازالت تجوب ميادين الثقافة، سلاحها الثقافة، ومدادها المعرفة. وجوه انارت ثقافتنا الوطنيّة والعربيّة، من الشهيد حسين مروة الى أحمد دكروب وخليل حاوي، ومن الياس الديري الى يوسف حبشي الأشقر وتوفيق يوسف عواد، ومن أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور الى حبيب صادق ومحمد الفيتوري، وصولاً الى صاحب السفير طلال سلمان.

إضافة الى هذه القامات الفكريّة، يتضمن الكتاب دراسات أبرزها حوار الحضارات في الإسلام، و23 يوليو إصلاح لا ثورة، وسقوط النظام العراقي وتهافت خطاب العولمة، وضعف الأحزاب، قوة القبائل، وعلاقة جدلية بين السياسة والأدب في الثقافة الوطنيّة.

وسأكتفي بمقطع اقتطفه من بحثه الأخير حول علاقة المثقف بالسلطة، كتبه بمرارة معاناة الرسول الذي لا يجد له مكاناً بين قومه، قائلاً:

يخرج المثقف من مجلس القبيلة ويذهب الى غربته.. عاجزاً عن الحلول عن همزة القطع التقليديّة.. يغسل المثقف يديه من الحرب.. يقدم استقالته لقادتها.. يحمل أوراقه وقلمه الى أبعد من مرمى أسلحتهم كافة.

ويبقى في الجعبة كتابه الثامن والأخير بعد رحيله وهو بعنوان الموروث الشرقي للثقافة العبريّة، الذي تأخر صدورُه بسبب المخاض العسير الذي يمر به الوطن، والفاقة التي يعيشها المواطن، آملين أن يصدر قريباً.

وكي لا أتهم باللاموضوعيّة وأنا أكتب عن عفيف فرّاج، سأقتطف باقة مما قاله رئيس اتحاد الكتاب اللبنانيين الشاعر الكبير الراحل جوزيف حرب يوم ذكرى اربعينه، اذ قال:

موت عفيف فراّج، شبيه بنوم السنديان، وموت السنبلة على سرير الطحين، وغياب بيت الشّعر وما بلغت بعد مساء القافية... كم كان عفيف فراج صادقاً كوعد البحر بالموج، ومترفعاً كسيرة السيف بين الخناجر، وصارماً كقرار الأعاصير، ونبيلاً كروح الصيف، عاصفاً في الحق، وصوانياً في المواقف... ولم يعش عفيف فرّاج عيالاً على أحد. كان إذا جاع تقوت بكسرات من قمح شرفه. كان ملكاً تاجه الحبر وصولجانه القلم، بيرقه الورقة ورعيته الكلام وقصره الكتاب.


الكاتب

رابطة اصدقاء كمال جنبلاط

مقالات أخرى للكاتب

العدد 69

الخميس 29 كانون الأول 2022

بيان رابطة اصدقاء كمال جنبلاط بهذه المناسبة

رابطة اصدقاء كمال جنبلاط


نداء اطلقه المعلم كمال جنبلاط سنة 1975 يحاكي الحاضر ويشكل خارطة طريق لانقاذ الوطن واعادة بناء الدولة بمؤسساتها واداراتها وسلطاتها "ان اللبناني الذي يعي تاريخه وتراثه وحاضره ومصيره، وان المواطن المخلص الذي تعمر في نفسه روح الوطنية والكرامة والشهامة، لابد ان يكون له ثلاثة اشكال من الولاء، اذا كان فعلا صادقاً مع قضيته ومع شعوره وعقله ووطنه.

العدد 68

الخميس 01 كانون الأول 2022

بمناسبة ذكرى ولادته في 06 كانون الاول 1917 رابطة اصدقاء كمال جنبلاط تتذكر نداء اطلقه كمال جنبلاط سنة 1975 يحاكي الحاضر ويشكل خارطة طريق لانقاذ الوطن واعادة بناء الدولة بمؤسساتها واداراتها وسلطاتها

رابطة اصدقاء كمال جنبلاط


"ان اللبناني الذي يعي تاريخه وتراثه وحاضره ومصيره، وان المواطن المخلص الذي تعمر في نفسه روح الوطنية والكرامة والشهامة، لابد ان يكون له ثلاثة اشكال من الولاء، اذا كان فعلا صادقاً مع قضيته ومع شعوره وعقله ووطنه.


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك