نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 60

الثلاثاء 29 آذار 2022

زارنا "نبيّ"!

مقال سياسي

محمد شيا

.. لم تطلِ الزيارة، أقل من ستين سنة بعُمر الأيام والشهور والسنين.

لكن السنوات الستين حملت أضعاف أضعاف ما تحمله في العادة سنوات مشابهة، في عمر أي إنسان، وفي زمن استثنائي.

فقد ملأ هذا الزائرُ العجيب الذي استقبله كوكبنا في السادس من كانون أول 1917 كلّ ثانيةٍ من السنوات الستين تلك بما فاجأ، وأدهش، بل دوّخ معاصريه، لبنانيين، عرباً، وأجانب، شرقاً وغرباً، سياسيين ومفكرين، يساريين ويمينيين، قوميين وكيانيين، تسوويين وثائرين، متدينين وعلمانيين، مسيحيين ومسلمين، مفكرين وعارفين.

كيف لا وقد ترك في ثلاثين سنة - وسأترك جانباً فصول حياته الحزبية والسياسية والإدارية والخدماتية المثيرة - تراثاً مكتوباً منشوراً بلغ السبعين كتاباً ضخماً، متقناً، ويزيد، في أبواب عدة، وباللغات الثلاث، إلى مئات المحاضرات، والدراسات، والدروس، والخطب، وفي طليعتها المقال الأسبوعي لجريدة الأنباء، فكان مجموعُها 4715 عملاً فكرياً وثقافياً. بعضُ سرِّ ذلك نجده في الحياة الروحية الغنية التي عاشها، والزهد الصارم بكل ما ضمّت الدنيا من حرام ومن حلال أيضاً، كما في شغفه بالمعرفة، على ما رواه أمين مكتبة السوربون، حيث درس كمال جنبلاط لثلاث سنوات آواخر الثلاثينات، حين قال: "كان طوال سنتين ويزيد آخر من يغادر المكتبة مساء".

وعلى عظمة ذلك، واستثنائيتِه التي لا تتكرر، فإن الأكثر عظمة بل غرابة هي الطريقة التي ملأ بها ذلك الزائرُ العجيب وجدانَ الناس العاديين تحديداً وعلى نحو لم يحدث ربما إلا في زمن الأنبياء والمصلحين والمعلمين الكونيين – وهم لا يتأتون لأمة من الأمم إلا على رأس كل مئة عام على قول الإمام الغزالي!

بعد حين، وبعد أن دخلتُ أكثر في عالم كمال جنبلاط السياسي والفكري والثقافي، صار في وسعي أن أفهم ما رأته عيناي عصر ذلك الأربعاء الحزين في 16 آذار 1977 من مشاهد لا تصدٌّق. في عشرات القرى التي مررت بها عصر ذلك النهار، رأيت الناس، كل الناس، في الطرقات والساحات، كانوا مذهولين، كما لو كانوا ينظرون ولا يبصرون، يتطلعون بك وكأنهم يرونك للمرة الأولى، لا كلام، ولا من يحدث من، كان صمت مطبق، عدم تصديق، ذهول تام!

ألم يكن ذلك ردَّ فعلِ مؤمني مذاهبَ وفرقٍ عدة في أزمنة مختلفة حين بلغهم خبرُ صلبِ نبيّهم، أو قتله، أو وفاته؟ كانوا بين مصدّق وغير مصدّق. لقد حدث ما لم يكن في الحسبان: رحل المعلّم! كانوا يلطمون كفّاً إلى كف، ويُجهشون بالبكاء: غير بعيدٍ عن أحزان الجراح التي فتحتها السكاكين التي قتلت ظلماً الأنبياء والمصلحين الكبار والمعلمين: من صلب يسوع إلى الحسين إلى غاندي إلى كمال جنبلاط، وغير بعيد أيضاً عن النواح الصامت للنساء الثكلى المتشحاتِ بالأسود والأبيض، ولا عن البوحِ المكبوت للرجال: يا ليتنا كنّا معك!

وكما زلزلت دعواتُ المظلومين والمستضعفين، أو سهامُ الليل في ليتوروجيا إخواننا الشيعة، عالم الإسلام بأكمله فلم يستقرَّ له قرار إلى يومنا هذا، كذلك زلزلت دعواتُ فقراءِ هذا الوطن ومظلوميه من كل الجهات بعد اغتيال المعلّم كمال جنبلاط عروشَ الطغاةِ وأنظمتِهم في العالم العربي: فقد هبّت انتفاضاتٌ بغير عدد بدءاً من مليونيات بيروت إلى فلسطين إلى كل ميادين التحرير في كل عاصمة ومدينة وبلدة عربية، فرحل الطغاة أو تمزّقت أنظمتهم الاستبدادية. ولم يكن مستغرباً أن يحمل المنتفضون الغاضبون في غير عاصمة ومدينة عربية مشرقية أو مغربية صور كمال جنبلاط! كانوا يستحضرون في اللحظة تلك، وعلى نحو عفوي، صورة الظلم الذي تعرّض له كمال جنبلاط، الإنسان، المفكر، وبطل الحريات الرافض للسجن الكبير وغير المستعد للمساومة على مبادئه: لقد قاومتِ العين المخرزَ فعلاً، وانتصرتِ الضحية على الجلاّد، فسقطت أنظمةُ قهرِ الشعوب وأدواتُ قمعها التي حالت دون انتصار مشروع كمال جنبلاط التقدمي والوطني والديمقراطي في آن، ثم أراقت دمه البريء المسفوح ظلماً، مع أبرياء ومظلومين آخرين.

كان في وسع كمال جنبلاط، طبعاً، أن يتجنبَ ذلك الأربعاء الأسود لو سكت على الباطل، ووقّعَ على لوائح الاستبدايين ومطالبهم، أو حتى لو قبل الدعوات الحارة من أصدقاء كثر، وفي مقدمهم الرئيس الجزائري والأمير عبدُالله، ليترك الوطن ويذهبَ إليهم. إلا أنه وعلى طريق الجلجلة التي دشنها السيدُ المسيح، ومشاها من بعده صحابيون وقادةُ وعلماءُ ومفكرون كثر، أبّى الموت إلاّ على ثرى الأرض التي أحبها وكتب لها أجمل الشعر، وبين الناس الذين أخلص في رسالته لهم، فبادلوه الولاء حتى درجة التماهي والعبادة.

وهكذا كان له أخيراً ما أراد، بل ربما ما أحب. فحين ودّع المختارة ظهيرة ذلك النهار، عاد إلى مكتبته الضخمة مرتين ومازحها مودعاً على ما يروي الشهود: "بَدِكْ عمْر تاني حتى يقدر الإنسان يقراك"! وودّع أيضاً ومرافقاه الحبيبان أقرب الناس الذين كان عليهم وداعهم. ومضى إلى أوّل الدربِ الموصلِ إلى النعيم، نعيمُ الروح والعقل والضمير والرضا، قبل نعيم الجسد. لذلك رأينا كمال جنبلاط في يوم تشييعه نائماً نوماً عميقاً – هكذا بدا وجهُه الصبوح. لقد هزمَ قتلته من دون شك حتى في يوم مقتله: فالخزامى والريحان وأقاحي الورد وبياض زهر اللوز أزهرت كلها في ذلك الوادي بعد ذلك وكما لم تفعل من قبل! واستمر ألاف الناس من كل بقاع الوطن يحجون إلى حيث استشهد وإلى ضريحه يضعون وروداً حمراء ويجددون العهد على إكمال مسيرة حرية الإنسان وتقدمه في لبنان والعالم العربي حتى النهاية مهما ادلهمّت الظروف وزادت عتمة الليل وصعوبات الطريق.

                                                      11

... زارنا "نبيْ"! أجل. وكم كنتُ محظوظاً أن أتيح لي شخصياً أن أكون إلى جانبه بضع لحظات، منذ 1 أيار 1965 حين جاء إلى بلدتي يفتتح مركزاً فيها، وقد خاطبته ’كمال جنبلاط’ – لا البيك، ولا الأستاذ، ولا سواها – هكذا تراءى لي أنا إبنُ الخمسة عشر عاماً يومذاك أنه معلّمنا وكان يبتسم تكراراً؛ إلى رسائل الودّ أنقلها إليه مع ابتسامة عريضة من صديقه وصديقي ميخائيل نعيمه حيث كنت أنجز أطروحة جامعية عن فلسفته، إلى مدرسة الأربعاء في زقاق البلاط يحدّثنا فيها مساء كلِ أربعاء عن هيرقليطس وهيجل وماركس وبرغسون ودو شاردان، وعن فساد الحضارة الآلية المادية التي ستنهار في النهاية، بل ويسألني مباشرة في إحداها، وكنتُ يومَها مسؤول التثقيف في أول مكتب لمنظمة الشباب التقدمي: أنتَ كتبتَ فقرة هيجل في هذا العدد؟ قلت نعم. قال الأمر ليس كذلك. هيجل كما شرحتَه هو هيجل كما فهمَه وصوّرهُ ماركس. هيجل أوسع من ذلك بكثير، يجب أن تعود إلى هيرقليطس تحديداً كي تفهمَ هيجل. واستمر طيلة ذلك الشتاء يترجم مساء كل أربعاء مقاطع من هيرقليطس ويشرحه. أكتفي بهذه اللمحات وهي بين أثمنِ ذكرياتي الشخصية.

أقولُ زارنا "نبيْ"، قاصداً، عامداً، غيرَ مبالغ – وأعتذر ممن سيفهم الأمر على غير ما قصدته حصرياً. ألم يكن نعيُه للحضارة الآلية\المادية\الاستهلاكية في محلّه تماماً؟

دلّونا على حضارة مادية راهنة لا يكاد يخنقها عقلها المادي الشرير؟

ولا تكاد تخنقها الحروب "الضرورية" لصناعة الأسلحة فيها، ولميزان مدفوعاتها، ومعدلات نموها المزعومة؟

دلّونا على مجتمع راهن ترك له التقدّم المادي السريع المجنون فسحة من راحة، وهدوء، وإمكانية تأمل في ما يجري؟

ممنوعٌ التأمل في ما يجري، ولا نقده، عليك أن تنظر فقط كل عشر سنوات إفلاساً يذهب بثروات الأمم هباء، فتضطرها إلى حرب كبرى (كما حرب أوكرانيا اليوم) لتجديد خزائنها ولو على حساب ضحايا بغير عدد وآلام الأطفال والنساء – من يسال عنهم إلا أذا جرت ترجمتهم أرقاماً بالدولار واليورو والين؟

نعم، كان كمال جنبلاط نبيّاً حين لم تقنعه هذه الحضارة المادية منذ نعومة أظفاره وإلى أواخر عمره القصير.

  ألا أن ما قصدته ب"النبي" هو أكثر من ذلك: هي صورة الفيلسوف – النبي، كما صوّره هيرقليطس وأفلاطون، وتحديداً الفارابي في مدينته الفاضلة، والذي جعل للرئيس -الفيلسوف مواصفاتٍ وشروطاً تقاربُ حدّ النبوة (من دون الوحي بالتأكيد).

 لست أبالغُ، إذاً، حين أنهي كلامي هذا بما أنهيت به كتابي "كمال جنبلاط ... لزمن آخر"، (الصادر سنة 2007 عن دار النهار)، وبالاستعانة مرة ثانية بالفارابي. يعيّن الفارابي في كتابه "أراء أهل المدينة الفاضلة" الشروط التي يجب أن تتوفر في الرئيس – الإمام في مدينته الفاضلة، فيقول: "لا تكون الرئاسة إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فُطر عليها، وهي:

- أن يكون تام الأعضاء،

- أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال،

- أن يكون جيد الفطنة ذكياً،

- أن يكون حسن العبارة،

- أن يكون محباً للتعلم والاستفادة،

- أن يكون غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح...

- أن يكون محباً للصدق وأهله، مبغضاً للكذب وأهله،

- أن يكون كبير النفس، محباً للكرامة، تكبر نفسه عن كل ما يشين من الأمور،

- أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هيّنة عنده،

- أن يكون بالطبع محباً للعدل وأهله، مبغضاً للظلم والجَور وأهلهما،

- أن يكون قويَ العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يُفعل..."

عمّن كان الفارابي يتحدث في النص أعلاه؟ وهل اجتمعت الخصالُ والصفات تلك في إنسان بقدر ما اجتمعت في كمال جنبلاط؟

هوذا كمال جنبلاط الإنسان، والمناضل، والمثقف، والفيلسوف، والعارف، الذي قارب في علمه، وفي سيرته على وجه الخصوص أخلاق النبوّة. ولكن ما العمل بأمةٍ أدمنَ سلاطينها قتل الأنبياء ونفي المصلحين وإحراقِ كتبِ المفكرين والأحرار فيها؟

إلا أن الطغاةَ وجرائمهم لا يساوون أكثر من صفر في حساب التاريخ: فكمال جنبلاط كان في موته أكثر حياة من قتلتِه! وثورةُ العقلِ والتقدمِ والحريةِ التي أطلقها تستمرُ نبراساً للشباب جيلاً بعد جيل، أما جلاّدوه وقتلتُه فلن يذكرهم التاريخ بشيء خلا دورِهم في هذه الجريمة ومثيلاتها.


الكاتب

محمد شيا

مقالات أخرى للكاتب

العدد 54

الخميس 30 أيلول 2021

مناقشة اولية لمشاريع الفدرالية المقترحة

محمد شيا


يتوجب أولاً القول أن لا مشاريع نهائية مطروحة للقدرالية في لبنان، بل أفكار ومسودات عدّة، أعلنت بطرق مختلفة، وعليه فسأتناول أفكار بعضها فقط.


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك