نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 85

الخميس 25 نيسان 2024

عن "اليوم التالي" في غزة والأهداف المخفية للميناء الأميركي

دراسة استراتيجية تحليلية

العميد م. ناجي ملاعب

هل أصبح من الممكن الكلام عن اليوم التالي في غزة والقتال ما زال مستعراً، وعلى عدة جبهات لنصرة غزة، وآخرها الدخول الإيراني على خط المواجهة المباشر. وهل تمثّل الاندفاعة الأميركية في الدرس والإقرار وبدء التنفيذ لميناء على شواطئ غزة أهدافاً معلنة "للمساعدة الإنسانية" في الوقت الذي لا تحرك ساكناً لإرغام إسرائيل بفتح المعابر، وفي الوقت الذي أقر فيه الكونغرس الاميركي مساعدة عسكرية جديدة بقيمة 26 مليار دولار أميركي.

  لا تزال التداعيات الإستراتيجية للهجوم المباغت وغير المسبوق الذي شنته حركة حماس، والفصائل الفلسطينية المقاومة الأخرى، على إسرائيل من قطاع غزة في السابع من تشرين الأول غير واضحة. فالحدث ما زال يتدحرج ومن الصعب بالتالي التكهن بالكيفية التي سينتهي إليها خاصة بعد إعلان بنيامين نتنياهو حالة الحرب للمرة الأولى منذ عام 1973. ومع ذلك، ثمة إجماع داخل الدوائر السياسية والأمنية والإعلامية في إسرائيل على أن ما بعد هذا الحدث لن يكون كما قبله، وأنه يفوق كثيرا الإخفاق الإسرائيلي في حرب تشرين 1973. وهناك من بدأ يصف الحدث بأنه بمثابة "أحداث 11 أيلول 2001" (في الولايات المتحدة) في نسختها الإسرائيلية بحيث ستكون له تداعيات إستراتيجية قد تطاول الشرق الأوسط برمته.

من بعض القراءات الاستراتيجية الأولية لهذا الحدث، فإن ستة أشهر من العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة الأبية أزاحت الستار بالفعل عن بعض الأساطير الكبرى: أن القضية الفلسطينية ماتت، وأن التحالف الإسرائيلي - الخليجي الناشئ سيوفر ثقلاً موازناً ضد إيران، وأن المنطقة المنهكة بالصراع سوف تركز على نزع السلاح النووي، التصعيد والنمو الاقتصادي، وأن شرق أوسط ما بعد أمريكا قد ظهر بالفعل.

هذا الاستنتاج للباحث جريج كارلستروم Gregg Carlstrom في مجلة foreignaffairs في 6 آذار الفائت في مقالة له تحت عنوان "فراغ السلطة في الشرق الأوسط.. منطقة لا يوجد فيها أحد مسؤول". ويخلص، في نظرة أكثر شمولية، الى ان "المنطقة تجد نفسها في فترة خلو العرش. ولننسَ الحديث عن الأحادية القطبية أو التعددية القطبية: فالشرق الأوسط منطقة غير قطبية. لا أحد هو المسؤول. فالولايات المتحدة قوة مهيمنة غير مهتمة وغير فعالة، ومنافسوها من القوى العظمى أكثر من ذلك. ولا تستطيع دول الخليج الهشة أن تملأ الفراغ؛ ولا تستطيع إسرائيل أيضاً أن تفعل ذلك؛ ولا يمكن لإيران إلا أن تلعب دور المفسد ومثير المشاكل. والجميع يقف متفرجاً، يعاني من المشاكل الاقتصادية وأزمات الشرعية. كان هذا هو الواقع حتى قبل السابع من تشرين الأول. ولم تفعل الحرب سوى أزاحت الأوهام".

بالفعل، فنحن في مرحلة فراغ السلطة في وطننا العربي وليس في الشرق الأوسط، فمَن أطلق تسمية شرق أوسط وأدخلنا في مفهوم يمهّد لاستيعاب الكيان الصهيوني، كان يعرف الى أين سوف تصل الأمور؛ فالفراغ هو في عدم وجود "المشروع العربي" في مقابل وجود مشروع او رؤيا للثلاثي التركي – الإيراني – الإسرائيلي في هذا "الشرق الأوسط".

وأوافق في هذا المجال ما كتبه كارلستوم حول مشروع القومية العربية بقوله: "إن قصة عام 1967 (عام هزيمة الجيوش العربية)، رغم أنها ليست غير صحيحة تمامًا، إلا أنها مبتذلة للغاية. وكانت الأنظمة مثل نظام جمال عبد الناصر في مصر مدفوعة دائما بمصالح ذاتية ضيقة أكثر من المفاهيم النبيلة للقومية العربية، ولم تكتف إلا بنشر هذه الأخيرة عندما كانت تخدم الأولى. لقد أثقل هؤلاء القادة دولهم بالمشاكل السياسية والاقتصادية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. وربما كانت الكارثة التي تعرضوا لها في عام 1967 قد عجلت بزوالهم، لكنهم كانوا سينهارون تحت وطأة تناقضاتهم على أية حال".

من حقنا عندما نتسمّر امام شاشات التلفزة وعندما نغوص فيما تكتبه المواقع الإلكترونية ان نسمع او نقرأ لأي مسؤول عربي ما هو اليوم التالي لهذا الجهد الفلسطيني الجبار وبأقل الإمكانات، كيف يمكن احتضانه ودعمه، والوفاء للدم البريء الذي سال وما زال، وقد وفّر صمود المقاومين منصّة وركيزة تقارع المعتدي وتفشله في تحقيق أي ٍ من أهدافه؛ لكننا في المقابل بدأنا نخشى ونحاول ان نحيل طرف أعيننا حتى لا نقرأ او نشاهد مواقف كأنها صادرة عن العدو الإسرائيلي.

في هذه المقالة، وفي غياب المشروع العربي، نحاول الاطلاع على ما يخطط الآخرون لنا ما بعد اليوم التالي للعدوان على غزة، في اطلالة على المحاولات الإسرائيلية في شق الصف الفلسطيني ما بين الضفة والقطاع، والارتباك الواضح حتى اليوم بنتيجة الصمود الفلسطيني واستنزاف القدرات الصهيونية، ونركز على الأهداف المخفية للميناء الذي بدأت الولايات المتحدة الاميركية في انشائه على رصيف غزة.

استراتيجية فرِّق تسد

حتى السابع من تشرين الأول، بدت استراتيجية فرق تسد التي اتبعتها إسرائيل منذ فترة طويلة تجاه الفلسطينيين ناجحة. لقد بذل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كل ما في وسعه لتقويض السلطة الفلسطينية، حتى عندما عقد صفقات مع حماس وسهّل تحويل مليارات الدولارات إلى حكومتها في قطاع غزة؛ ثم ادعى أن إسرائيل ليس لديها شريك مفاوض على الجانب الفلسطيني لأن حماس هي الطرف الأقوى. كانت هناك جولة عرضية من القتال تستمر أسبوعًا في غزة أو موجة من هجمات الذئاب المنفردة في القدس والضفة الغربية، لكن الحكمة التقليدية كانت أن الفلسطينيين كانوا مضطهدين ومنقسمين للغاية بحيث لا يمكنهم حشد أي شيء أكثر من ذلك.

لقد فقد العالم الاهتمام بقضيتهم. ولم تعد الولايات المتحدة ترغب في لعب دور الوسيط. وكانت للصين والهند أولويات أخرى. حتى أن بعض الدول العربية كانت مهتمة بعقد صفقات مع شركات التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلية أكثر من الضغط من أجل إقامة دولة فلسطينية. ولم يكن هناك أي ضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها، الذي بدا كما لو كان من الممكن إدارته إلى أجل غير مسمى بتكلفة قليلة. وأظهرت استطلاعات الرأي أن أغلبية اليهود الإسرائيليين يفضلون الحفاظ على الوضع الراهن بدلاً من السعي إلى حل الدولتين.

أهمية الإفراج عن القادة الفلسطينيين في صفقة تبادل

لفت ديفيد هيرست رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي البريطاني، في مقالة له الشهر الفائت إلى أن العلامات كافة تؤكد تعرض دولة إسرائيل إلى "هزيمة استراتيجية"، في عدوانها المتواصل على قطاع غزة. وبرهن هيرست على طرحه بالإشارة إلى وجود عقبات لا تحصى في وجه دولة الاحتلال، من خسارة الرأي العام الغربي إلى القلق الشديد الذي بات يساور داعميها.

وأضاف "تتضاءل السلطات التي يملكها قائد الحرب الإسرائيلية داخل إسرائيل، فلم يعد يتمكن من إدارة الحرب كما يرغب. كما أن ميزان القوة بين إسرائيل وحماس ليس محسوماً كما بدا للوهلة الأولى.

وما من شك في أن الحملة العسكرية أضعفت قدرات حماس كقوة مقاتلة في غزة، على الرغم من أن أعضاء القيادة في غزة ما زالوا يمررون، وبشكل مستمر، رسالة إلى الجناح السياسي في الدوحة وبيروت مفادها أنهم على ثقة بأن لديهم القدرة على الاستمرار. وثمة مؤشر آخر على ثقتهم بأن لديهم القدرة على رسم مستقبل فلسطين وقيادتها، ألا وهو قائمة الأسرى الذين يتوجب تحريرهم مقابل من تبقى من رهائن إسرائيليين.

تتضمن القائمة مروان البرغوثي، القيادي في حركة فتح المحكوم بخمسة مؤبدات وأربعين سنة سجن بسبب دوره في الانتفاضة الثانية، وأحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعبد الله البرغوثي، القيادي العسكري في حماس، وإبراهيم حامد، أحد قيادات الانتفاضة الثانية.

فيما لو أطلق سراح أي من هؤلاء الرجال، يقول هيرست، فإن الأثر الذي سيتمخض عن ذلك هو إعادة تشكيل القيادة الفلسطينية على مستوى جميع الفصائل، الوطنية والعلمانية والإسلامية. سيكون ذلك بالنسبة للفلسطينيين انبعاثاً سياسياً هائلاً. ولسوف يعني كذلك النهاية الحتمية للسلطة الفلسطينية التي تتعاون مع القوة التي تحتلهم.

بالنسبة لإسرائيل، من الممكن أن يوفر تحرير هؤلاء الرجال فرصة حقيقية للتفاوض على إنهاء الصراع. بدلاً من ذلك، وما زال الكلام لديفيد هيرست - فإن الفكرة التي خرجت بها حكومة الحرب هي تنصيب عميل آخر من السلطة الفلسطينية، ماجد فرج، ليكون مسؤولاً عن غزة. إلا أن مهمة فرج محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ، ولذلك حري به لو كان حكيماً أن يرفض مثل هذا العرض المسموم.

غاز غزة في التخطيط الإسرائيلي لليوم التالي

بعد مرور أقل من شهر على بدء العملية البرية لجيش الاحتلال وتحت عنوان آفاق ما بعد الاستسلام كتب روفين غال col. (ret.) Reuven Gal كبير علماء النفس السابق في الجيش الإسرائيلي 24 تشرين الثاني 2023 عن دور العامل الاقتصادي في حلول اليوم التالي لغزة فقال:

أدرك ماك آرثر أنه فقط عندما يستسلم الإمبراطور الياباني هيروهيتو دون قيد أو شرط، وهو ما فعله في الخامس عشر من أغسطس عام 1945، فإن الشعب الياباني سوف يحذو حذوه. فقط بعد هذا الاستسلام، خلال السنوات السبع (1945-1952) من احتلال اليابان وإعادة إعمارها بعد الحرب، خضع الشعب الياباني للتحول الاقتصادي الذي قاده إلى عصره الحديث. وعلى نحو مماثل، وعلى الرغم من الاختلافات العديدة بين الحالتين، فلابد من إقناع قيادة حماس بالاستسلام دون قيد أو شرط حتى يحذو شعب غزة حذوها.

وبعد ذلك، يتعين على قيادة جديدة مختارة بعناية (وليس حماس)، بموافقة إسرائيل ودعم دولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن تتولى تجديد استغلال الغاز في بحر غزة. وسيُسمح لغزة بالانضمام إلى تحالف تجاري إقليمي يضم المملكة العربية السعودية ومصر والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى. وستلعب مصر دورا بارزا لأنها تزود أوروبا الآن بالغاز الطبيعي المسال بدلا من روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.

"غزة مارين" هو حقل للغاز الطبيعي قبالة سواحل قطاع غزة. ويقع حقل غزة البحري على بعد حوالي 36 كم. في البحر على عمق 610 متر. تم اكتشاف الحقل عام 2000 من قبل مجموعة بي جي (الغاز البريطانية)، ويقدر أنه يحتوي على أكثر من تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي.

لسنوات عديدة بعد اكتشافها، أخرت المفاوضات الأمنية والاقتصادية تطورها. ومن بين الأطراف الرئيسية المشاركة في المفاوضات شركة الكهرباء الإسرائيلية ومصر، اللتان تسعيان إلى تحويل الغاز الطبيعي إلى غاز طبيعي مسال لتصديره. (شاركت مجموعة BG أيضًا). وعلى الرغم من أنها تخضع قانونيًا لولاية السلطة الفلسطينية نتيجة لاتفاقيات أوسلو، إلا أن القوات الإسرائيلية منعت الفلسطينيين من الوصول الفعلي إلى المنطقة البحرية ومواردها. ومن الواضح أن استغلال الغاز سيكون بمثابة مكافأة كبيرة لاقتصاد غزة.

ويخلص الكاتب الى أن الصراع الحالي في الشرق الأوسط يخلق حاجة وفرصة لتحديد هدف شامل لليوم التالي للحرب. وهذا الهدف يجب أن يكون هدفاً استراتيجياً وسياسياً شرق أوسطياً عالمياً يقوم على مصلحة جديدة، أو حتى أفضل، على مصلحة مشتركة جديدة. ومن دون اهتمام جديد، فمن غير المرجح أن يغير شعب غزة أساليبه.

ماذا يمكن أن يكون هذا الاهتمام الجديد؟ يبين لنا التاريخ أن المصالح الاقتصادية تكون أكثر فعالية بعد الحرب. وتعد خطة مارشال في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية و"المسار العكسي" تحت قيادة الجنرال دوجلاس ماك آرثر في اليابان من الأمثلة النموذجية.

ميناء المساعدات الإنسانية

الموافقة الاسرائيلية على إقامة الولايات المتحدة لميناء مؤقت أمام غزة، يُثير الانتباه والحذر معاً أن الكيان الصهيوني الذي يرفض تماماً فتح المعابر ويهاجمها ومنها معبر رفح رغم أنه مصري/فلسطيني وبالتالي هناك شرعية مطلقة في الدفاع عنه، ومن المُفترض الحصول على موافقة حركة حماس على انشاء الميناء - وقد يكون هذا قد تم عبر القطريين – وكانت السرعة ما بين إعلان الرئيس الأمريكي عن هذا الميناء في 7 آذار 2024 وبداية تنفيذه تسترعي النظر، واستنتاج أن الإدارة الأمريكية درست ومحصت الموضوع بحثاً مع قوات الاحتلال فلا بد أن تكون موافقتها مصدرها أن الميناء سيحقق للفريقين أهدافاً لم يحققوها على بر غـزة وقد يحققها الاقتراب من غـزة، لقد نجح السفير بلال المصري في موقع المركز الديمقراطي العربي الالكتروني بتاريخ 12 اذار 2024 في الإضاءة على بعض تلك الأهداف وما تخفيه في مستقبل قطع اوصال غزة عن عمقها العربي.

قد يكون من بين الأهداف الأمريكية من إقامة ميناء في غـزة (سبق أن دمر الصهاينة الميناء القديم الذي أقامه الإتحاد الأوروبي) أن يكون هذا الميناء مـرتبط بخطة الولايات المتحدة بشأن اليوم التالي بعد انتهاء الحرب في غـزة سيعقبه - لو صح هذا الافتراض - إجراءات أخرى ذات صلة وربما بطبيعة مختلفة:

أ - إن خطة الولايات المتحدة (والصهاينة بصفة خاصة) من إقامة هذا الميناء المؤقت الآن – وقد يتحول لميناء مُستديم – إن كان واقعاً في نطاق زمني مرتبط باليوم التالي بعد انتهاء الحرب في غـزة، أن يكون الهدف المُراد هو فصل قطاع غـزة نهائياً عن مصر مما سيُعد انتصاراً غير عسكري حققه الصهاينة الذي دأب بعضهم على ترديد أن مصر كانت مصدراً رئيسياً لتهريب الأسلحة المختلفة لحركة حماس عبر الأنفاق، والوقت المناسب لوقف هذا الإجراء الأمريكي لعدة أسباب قد فات على مصر لوقف هذا الإجراء الأمريكي الذي يعتبر الصمت الصهيوني عليه رضى تام عن فصل القطاع نهائياً عن مصر رغم إصرار الصهاينة على تجويع قطاع غزة ووقف أعمال وخدمات الأونروا .

3 - قد تكون الولايات المتحدة باتفاق مع الكيان الصهيوني تريد تحقيق هدف فصل قطاع غـزة كلياً عن مصر، إذ من الواضح – على الأقل في ضوء المعطيات الناجمة عن إقامة الميناء المؤقت - أن مصر مـُعرّضة لأن تفقد ميزة أنها لصيقة ومتاخمة جغرافياً لقطاع غزة وهي الميزة التي أكسبتها التأثير والتأثر بغزة مما منح مصر دائماً الأولوية في مشاركة الشعب الفلسطيني في غزة، لكن من الواضح أن هذه الميزة قد فقدتها مصر أو كادت أن تفقدها، فقد قررت الولايات المتحدة جعل قبرص اليونانية التي تبعد نصف ساعة طيران عن غزة نقطة ارتكاز للإمدادات الإنسانية لغزة بدلاً من رفح أو العريش، وبالتأكيد هناك أسباب متنوعة وراء ذلك قاسمها المشترك أن شيئاً ما سيئ وسلبي قد طرأ على العلاقة الأمريكية/المصرية والتي قسم كبير منها راجع لمضاعفات العدوان الصهيوني الغاشم على غزة، والمسافة التي تضاءلت وقربت كثيراً بين السياستين الصهيونية والمصرية من حماس الأمر الذي كان أقل نتائجه فقدان مصر لميزة الوسيط المؤثر على حركة حماس وحلفائها في القطاع، الأمر الذي أدى لشبه انفراد من قطر بملف الحرب والسلام في غـزة، وفي غمار تلك الحرب التي تتغير مجرياتها السياسية كل يوم من الصعب أن تسترد مصر مركزها السابق لدى الغزاويين ولدى حركة حماس وحلفائها معاً

كما أن الممر البحري ذي الطبيعة الإنسانية اليوم يمكن أن يكون مفيدا حتى بعد انتهاء الحرب، أي أنه يمكن استخدام نفس هذا الممر على المدى الطويل لنقل مواد البناء لإعادة إعمار غزة وبالتالي فإن حكومة قبرص قد تكون مركزاً لوجيستياً لعملية إعادة إعـمار غـزة أيضاً، وعليه تكون قبرص قد فازت والحالة هذه بمعظم ثمار الإعمار في غزة من الوجهة التجارية وربما شركات المقاولات القبرصية ومن الوجهة اللوجيستية.

 وليس من قبيل الصدفة أن أردوغان وتركيا حاولا بتصريحاتهما منع إنشاء الممر لأن تركيا تابعت الموقف وعلمت قبل الإعلان الأمريكي عن قرار إقامة الميناء الموقت أن الأمور سائرة في اتجاه بعيد عنها أي في قبرص اليونانية التي تناصب تركيا العداء، فهذا القرار أبعد مصر ربما بقدر أكبر من تركيا. وتأكيداً لذلك أُشير إلى أنه قد صدر في 8 آذار 2024 بياناً مشتركاً أعلنت فيه مفوضية الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وقبرص والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة والمملكة المتحدة (لم يتضمن البيان أن مصر لها علاقة بهذا الإعلان) عن عزمهم فتح ممر جديد بالتنسيق مع سيجريد كاج من الأمم المتحدة.

4 - يُحتمل كذلك أن تكون من بين الأهداف الأمريكية من إقامة ميناء مؤقت في غـــزة أن تكون الولايات المتحدة تريد أن تجعل من قبرص نقطة ارتكاز دائمة للتعامل مع غزة والاستغناء بصفة نهائية عن المعابر البرية على اختلاف تبعيتها، وبالذات مـعـبر رفح المصري، وبالتوازي استخدام قبرص نفسها كنقطة استقبال لمن يريد من سكان غــزة التوجه والهجرة لأوروبا – على فرض رغبة سكان غزة الهجرة من غزة – وذلك بشكل تدريجي وكذا تصفية المقاومة الفلسطينية على مراحل، خاصة وأن هناك في قبرص قاعدتين بريطانيتين للتنصت وأعمال الاستخبارات الأخرى (هما معاً تعتبران جزءاً من الأراضي البريطانية ما وراء البحار).

5 - هدفٌ آخر مُحتمل قد يكون من بين الأهداف الأمريكية انطلاقاً من ربط قبرص بميناء غزة المؤقت وهو أن يجعل الأمريكيين من قبرص مركز اتصالات/مفــاوضات بديل عن القاهرة خاصة، وأن ثقل مصر في الموضوع الفلسطيني ككل مصدره الأول جوار مصر اللصيق بقطاع غزة جغرافياً، وإقامة الميناء المؤقت أنهى الاحتياج لمعبر رفح والعريش معاً وأصبح مـطار لارناكا لا العريش هو محطة الاتصال مع ميناء غـزة المؤقت الذي يُستبدل بإقامة ميناء مُستديم وربما مطار مع تطورات سياسية لاحقة .

6 - إن قرار الولايات المتحدة إقامة ميناء مؤقت لغزة ليس بالقرار الذي تم اتخاذه لخدمة أغراض وأهداف الأمد القصير وإنما هو قرار مرتبط بما يُعرف باليوم التالي لانتهاء الحرب على غزة أو الحرب في غزة والذي سيطرح فيه مُجدداً الرؤية الأمريكية لحل الدولتين ذلك الحل الذي بقدر ما يُعتبر غامضاً يُعتبر كذلك معقداً ليس فقط بسبب قضايا كالمستوطنات وشكل وطبيعة نظام الحكم في هذه الدولة الفلسطينية، بل الأهم والأخطر قضية السيادة في هذه الدولة الـمـُقترحة وقضايا الدفاع عن دولة كهذه سحقتها آلة حرب عمياء صهيونية لابد أن تطمئن وتضمن الاحتفاظ بتسليح يردع الكيان الصهيوني ويؤمن وجودها.

7 - ما يؤكد أن الهدف الأمريكي من وراء إقامة الميناء المؤقت ليس نبيلاً، أن الولايات المتحدة التي استطاعت فرض إقامته على الكيان الصهيوني كان يمكنها أن تفرض دخول المساعدات الإنسانية من أي من المعابر البرية لولا أن الهدف المؤكد من ميناء غزة المؤقت غير إنساني بالمرة. فالهدف هدف سياسي/أمني يحقق للكيان الصهيوني بعض الأهداف التي تستعصي عليه في بـر غزة

في تقديري، والكلام للسفير بلال المصري، لأن هذا الميناء المؤقت سوف يستخدمه الأمريكيون والصهاينة استخداماً أمنياً/عسكرياً واقتصادياً، فهو أمني/عسكري للهجوم على غزة وتهديدها بصفة دائمة بعد أن تضع حرب غزة أوزارها، بمعنى أنه سيظل سيفاً مسلطاً على رقبة غزة وربما يؤكد ذلك موقعه، فهذا الميناء تم إنشاءه ليكون دائماً وليس مؤقتاً كما يحاول الأمريكيون أن يقنعوا الكافة، كما أن هذا الميناء سيتحول إلي جزيرة معدنية في المستقبل كالمنصات المعدنية التي تقيمها شركات البترول للاستكشافات والاستغلال البترولي والغازي، فالأمريكيون والصهاينة يعلمون أن هناك احتمالات غازية مُعتبرة أمام ساحل غزة، وبهذا الميناء يمكن أن يشرع الكيان الصهيوني في البدء في عملية الاستكشاف للغاز الطبيعي في بحر غزة، فلا يمكن إقامة هذا الميناء المؤقت إلا بذريعة الإغاثة الانسانية أما بغير هذه الذريعة فستقوم المقاومة بتخريبه في الحال، فهذا الميناء المؤقت سيكون أمراً واقعاً في المـستقبل لا فكاك منه إلا بالتفاوض، فمع من سيكون هذا التفاوض مع السلطة أم حماس أم من؟ فالميناء المؤقت إنما تمت إقامته لمصلحة الكيان الصهيوني وليس كما يدعون لمصلحة الفلسطينيين ولأهداف إنسانية إذ كيف للأمريكيين أن يوفروا إغاثة للفلسطينيين وهم يرسلون يومياً وبانتظام تموين السلاح والذخيرة لإبادة الشعب الفلسطيني في غزة؟


الكاتب

العميد م. ناجي ملاعب


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك