نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 79

الثلاثاء 31 تشرين الأول 2023

"ابن رشدي" يتبوأ عرشًا على ضفاف السين

مقال سياسي

د. رشيد درباس


أعمالك كلها، أفكارك كلها، شخصيتك كلها، جسر بين عالمين، يحمل كل منهما نصيبه من الجرائم، ولكن أيضاً من القيم التي تريد توحيدها
جان كريستوف لوجين لمنافسه أمين معلوف

انتخب أمين معلوف أمينًا دائمًا للأكاديمية الفرنسية، بعدما فاز على منافسِه الذي شهد له بتلك الميزات العالية منذ العام 2012، عندما دخل أمين إلى الأكاديمية ليشغل المقعد التاسع والعشرين، فما عتّم أن استعاد تاريخه، وتاريخ فرنسا معه خلال أربعة قرون، بسرده حياة ومغامرات الأشخاص الثمانية عشر الذين تعاقبوا قبله على كرسيه.
أبوه رشدي، الشاعر الموسيقي الصحافي الذي عبر عن نفسه "بالمختصر المفيد"، فكان الأمين بؤرة الكثافة الثقافية والأدبية والمعرفية والإنسانية، الذي تَكَوَّنَ في "عين القبو"، كما يقول في "البدايات"، حيث غاص في تاريخ أهله إحياءً لمسيرة عشيرة آل معلوف، ثم صهر نبوغه في ضوء "النهار"، فلما اشتد "التهافت"، و"تهافت التهافت"، نجا بنفسه إلى فرنسا، فإذا به هناك منتبهٌ إلى أن الشرق يسكنه، فراح يعيد إنتاجه بالفرنسية - وهو ابن العربية العريق - مبتدئًا "بالحروب الصليبية كما رآها العرب"، منتقلًا إلى "ليون الإفريقي" و "سمرقند"، عائدًا إلى "صخرة طانيوس" التي استحق عليها "الغونكور". أما "الكرسي المعلّى" فلم يحرزه لأنه تغرب فكتب بغير لغته وأقام بعيدًا عن "القبو" و"النهار"، بل لأنه أنطق الفرنسية بمفردات العرب والشرق، وأجراها نبعًا سلسالاً، سعت اللغات إليها ترجمة وتعريبًا، فجعل مودة ورحمة بين "الهويات القاتلة"، ومضى بها إلى رحاب "حدائق النور" في رحلة خيالية عُرْضَ حياة "ماني".
أمين معلوف ابن التعليم اللبناني، وجبران ابن طبيعة "الجبة" وتدفق "قاديشا"، وحسن كامل الصباح ابن الجنوب، أما الدكتور أحمد زويل حامل جائزة "نوبل" للكيمياء فخريج التعليم الرسمي المصري؛ وهؤلاء جميعهم عينة قليلة من نوابغ كثر، فاضت "شرقيتهم" وأصالتهم خارج بيئاتهم، التي عبث فيها العابثون، وشوَّه رونقها المشوهون.
قرأت في كتاب للمحامي الأستاذ حسين ضناوي عنوانه "الزمن في بيت الكلمات" عن محاضرة ألقاها الخبير الاستراتيجي العسكري الأميركي " فاكس مانورا رينج" في معهد الدراسات التابع لكلية الحرب الأميركية أمام كبار الضباط من حلف "الناتو"، يتحدث فيها عن نوع جديد من الحروب أسماه "الجيل الرابع من الحرب"، لا يستهدف تحطيم الجيوش أو تدمير قدراتها العسكرية، بل الإنهاك والتآكل البطيء والثابت لإرغام العدو على الرضوخ، فالهدف هو زعزعة الاستقرار، بوسائل ينفذها مواطنون من الدولة العدو، حتى تصير دولة فاشلةً مهددةً سيادتُها بخروج أقاليم منها عن سيطرتها، وبتدمير اقتصادها بصورة منهجية.
لقد رأى أمين المعلوف بثاقب النظر والتجربة، كيف يقوم أبناء وطنه ببناء دويلاتهم الفاشلة على حساب وحدة الدولة، فكل فريق تسلح بمنظومة "فكرية" وسياسية وعسكرية وتقاتلوا حتى حققوا هدف العدو في غفلة منهم، فأخرج لبنان - أو كاد - من المعادلة، وأزيل مرفأ بيروت من خريطة الاقتصاد لمصلحة مرفأ حيفا، وراحت "النخب" تتبارز بالأقلام الملونة لتجزئة هذا البلد الصغير.
كانت لأمين بدايات فكرية رومنسية مع سمير فرنجية وكميل حوا وبعض من حركة الوعي، لكن وعيه دلَّه مبكرًا على أن "حرب الجيل الرابع" اندلعت، وستدوم إلى أن تحقق أهدافها، فخرج من الشرنقة الخانقة، وطار كفراشة القز إلى "ضفاف السين" متكئًا على مصطبته الفرنسية، متشبهًا برواة السيرة، يحكي لنا من كل شرق قصة، ليجمعها كلها بعد ذلك في ضمة كتب كأنها الجسور بين الحضارات، والطرق المعبدة بحرير التاريخ وأشواقه الشائكة.
في الأسبوع الماضي، صرح "هنري كيسنجر" لصحيفة "معاريف" الإسرائيلية، بأنه عندما سمع أخبار الحرب في السادس من تشرين الأول من العام 1973، اتفق مع الرئيس نيكسون على دعم إسرائيل وعدم السماح بهزيمتها، وقد ظنّا معًا أن المسألة لن تستغرق جهدًا كبيرًا لثقتهما بتفوق جيش إسرائيل على الجيوش العربية كلها، وبنجاعة السلاح الأميركي وأفضليته على السلاح السوفيتي؛ لكنه فوجىء بدقة التخطيط العربي، ومهارة الجنود وشجاعتهم، فما كان من أميركا إلا أن أرسلت قطارًا جويًّا محملاً بأنواع الدعم والأسلحة والطيارين، بغيةَ كسر الهجوم السوري أولاً لخطورة تأثيره على الداخل الإسرائيلي، ثم التفرغ بعد ذلك لفتح ثغره في الجبهة المصرية. وهذا حدث فعلاً بقيادة مجرم الحرب" أرييل شارون"؛ ولمن لا يذكر، فإن الجبهة السورية كانت في حالة حرجة، دفعت بالرئيس السوري حافظ الأسد أن يتصل بالرئيس العراقي أحمد حسن البكر، على ما بينهما من خصومة، طالبًا التدخل الفوري، فشن الجيش العراقي هجومًا مضادًّا على قوات العدو وأوقف تقدمها باتجاه دمشق. تلك الأحداث تدل على أن الدولة ذات السيادة تستطيع أن تشكل جيوشًا قوية ومحاربة بالرغم من الفارق في التسليح، ولكن "حرب الجيل الرابع" ضعضعت تلك الجيوش المحيطة بالكيان المغتصب، أو حَيَّدتْها كما في مصر، وعلى ما يجري حالياً للجيش السوداني، وزعزعت كيانات هذه الدول الوطنية فغدت "إسرائيل" في حالة استرخاء استراتيجي مشوب بالقلق من حزب الله، وهذا ما أتاح لها التمدد دبلوماسيًّا واقتصاديًّا وسياحيًّا في مناخ من الصمت والرضوخ الحزين.
أعود إلى أمين معلوف، المقسِّمِ نفسَه في جسومٍ كثيرةٍ كما قال عروةُ بن الورد، والجسرِ بين العالمين كما وصفه "كريستوف لوجين"، لأرثي أمامه الجسوم التي تناثرت بفعل الحروب، والجسورَ التي تهدَّمت بين الشعوب، من بلاد العرب المضرَّجين بالخصام، إلى ناغورني كاراباخ المكسورةِ السلام، وأتحسَّرَ معه على تمادي المصالحِ الكبيرةِ في تغيير الخرائط والعبث بالدول، وعلى انحدارِ العالمِ الثالثِ إلى أرقامٍ من التخلفِ أعلى، من رابع لخامس فسادس وما بعدها، بسبب غياب فكرة الدولةِ عن مجتمعاته، وتحوُّلِ المواطنين واللاجئين والنازحين، كما في لبنان، إلى قنابل بيولوجية متحفزةٍ للانفجار والانتشار؛ ولأعلنَ له عن خشيتي من أن يؤول بنا حالُنا إلى ضياعِ المصيرِ الوطني، وأناشدَه أخيرًا أن يشير من مقامه الرفيع على عرش "السين"، إلى "رعاياه اللبنانيين" بأن يرعووا ويعلموا أن أبسط حقوق الدولة اللبنانية أن يكون لها رئيس، يكون له شرف تعليق الوشاح الأكبر على صدر "ابن رشد" اللبناني.

الكاتب

د. رشيد درباس

مقالات أخرى للكاتب

العدد 78

الثلاثاء 03 تشرين الأول 2023

هل يسفر التنقيب عن استخراج رئيس

د. رشيد درباس


لم نلمس بعدُ الطرفَ المبلول رغم دخولنا في أيلول. لكننا ما زلنا ننتظر الغيث الفرنسي الذي لم تفلح رسالة #لودريان إلى من اصطفاهم من النواب في أن تبشّرنا منه بديمة سكوب، تسلم قيادَ الدولة إلى يدٍ رئاسية سمحة.

العدد 76

الخميس 03 آب 2023

مَصْرَفٌ أم "مصرف"؟!

د. رشيد درباس


قبل هزيمة 1967، كان توافق عربي على أن لبنان دولة مساندة في الصراع العربي الإسرائيلي؛ لكن ذلك لم يحجب دوره الريادي في خدمة القضايا القومية، فكرًا وصحافة وفَنًّا، حتى إنه كان مضافةً للمناضلين العرب، تَكَوَّن وَعْيُ بعضِهم في جامعاته،

العدد 75

الثلاثاء 27 حزيران 2023

بالنسبة لبكرا.. شو؟

د. رشيد درباس


ليست المشاهد الكوميدية هزلاً بحتاً، فالتراث مليء بالمؤلفين المسرحيين والسينمائيين والممثلين الفكاهيين الذين كانوا يتمتعون بالرصانة الفكرية والعمق الإنساني والبراعة الفنية، بدءاً بموليير وشارلي شابلن مروراً بنجيب الريحاني وزياد الرحباني وعادل إمام، بل إن كثيراً من أفلام شارلي شابلن الصامتة، كانت تتستدرج الدمعة، عقب الضحكة وتترك في النفوس آثاراً غائرة.


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك