اليوم التالي "في حرب غزة" الذي طال انتظاره: من يحدد مصيره
دراسة تحليلية
د. كريم القاضي – مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية
يتطلع الملايين من الأفراد في المجتمعات العربية والإسلامية والغربية إلى اليوم[1] الذي تنتهي فيه الحرب في غزة ومعه تنتهي معاناة وآلام سكان وضحايا القطاع خصوصاً مع بدايات شهر رمضان الكريم. وعلى الرغم من أن الحديث عن "اليوم التالي" [2]قد بدأ منذ اندلاع الحرب ذاتها في 7 أكتوبر الماضي (2023)، إلا أن الخلافات السياسية بين المتحاربين والدول المتفاعلة في الأزمة تثبت يومياً أن "اليوم التالي" لا يزال في طي الأماني وليس التحقيق.
وترجع صعوبة إنهاء الحرب والوصول إلى "اليوم التالي" إلى ثلاثة أسباب رئيسية وإن كانت مترابطة: أولاً، غياب عامل الحسم العسكري. وثانياً، الخلافات الحادة بين الأطراف الفاعلة في الأزمة حول الملامح الرئيسية لنظام الحكم في غزة بعد الحرب. وثالثاً وأخيراً، اتساع جبهات[3] الحرب من القطاع إلى مسارح أخرى في لبنان واليمن والعراق وسوريا مما يشجع على دخول لاعبين جدد من دول مثل إيران وجماعات مسلحة مثل أنصار الله الحوثيين على خط التأثير المباشر وغير المباشر على مجريات الحرب، ومعها مستقبل "اليوم التالي"، ومن ثم فهي كلها تطورات تُعقِّد حلحلة الأزمة، وتطيل بلا شك من معاناة السكان المدنيين في القطاع.
وتجدر الإشارة سريعاً قبل البدء في التحليل إلى أن مصطلح " اليوم التالي"[4] ارتبط في نشأته وتطوره بالحروب النظامية بين الدول- Interstate Wars، إلا أنه يتم استخدامه منذ نهاية الحرب الباردة في توصيف الحروب غير النظامية- Asymmetric Warfare. تلك الحروب التي تقع بين الدول والجماعات من غير الدول Non-State Actors، والتي تدخل الحرب في غزة في نطاقها. ويكمن أحد أهم الاختلافات الرئيسية بين النوعين من الحروب في وضوح النتيجة في النوع الأول سواء بانتصار أو هزيمة واضحة لأحد الطرفين أو التوصل إلى وقف إطلاق نار. أما الحروب غير النظامية فتتميز بغياب واضح لنتيجة الحرب، واستمرارية[5] العنف المسلح، حتى وإن كان ميزان القوة يميل بلا لبس إلى الدولة المحاربة.
فـ"اليوم التالي" في الحروب النظامية يدشن مرحلة إعادة إعمار ما هدمته الحرب من بنية تحتية، وعودة الاستتباب النسبي للأمن كي يعود السكان إلى أنشطتهم اليومية، واستقرار النظام السياسي الذي يدير شئون المواطنين في الموقع الذي شهد الحرب.
فعلى سبيل المثال، اليوم التالي في الحرب الأمريكية-اليابانية عام 1945 بدأ عند استسلام الإمبراطور الياباني العلني[6] للقوات الأمريكية وقبوله للهزيمة العسكرية. بعده شرعت الحكومة العسكرية الأمريكية في بسط سيطرتها وفرض حالة من الاستقرار السياسي والاقتصادي على الواقع الياباني.
غير أن "اليوم التالي" في الحرب الأمريكية في فيتنام الجنوبية لم يأت أبداً، لأن جماعات فيتنام المسلحة المُقاوِمة للاحتلال الأمريكي لم تعلن أبداً استسلامها رغم تعرضها لضربات أمريكية قاسية. وفي هذه الحالة، لم يأت "اليوم التالي" إلا بانسحاب[7] الولايات المتحدة نفسها من فيتنام الجنوبية وانهيار النظام السياسي المساند لها هناك.
هدف بعيد المنال
وعلى ذلك، فـ"اليوم التالي" في غزة لا يزال بعيد المنال، لأن إسرائيل لن تستطيع أن تحسم[8] المعركة ضد حماس عسكرياً. فبالرغم من أنها قد حجَّمت قدراتها العسكرية خلال الأشهر الخمسة الماضية بقتل[9] ما بين 6 آلاف و12 ألف من مقاتليها بحسب ما تشير بعض التقارير الإعلامية، إلا أن حماس لا تزال تطلق الصواريخ على إسرائيل وإن كانت على فترات متباعدة، وتشتبك مع جنودها ميدانياً وتعيد نشر[10] شرطتها في بعض مناطق القطاع الشمالية، ثم تبقى ورقة الرهائن الإسرائيلية لدى حماس وبعض الفصائل الأخرى لتبرهن على فشل الجيش الإسرائيلي في حسم المعركة.
أضف إلى ذلك أن بعض قيادات حماس لا تزال تصر[11] على المقاومة أملاً في استمرار التصعيد الإقليمي الذي قد يخلق لها فرصاً ما ومكاسب سياسية أخرى. أما بعض[12] القيادات الحمساوية الأخرى فتبغي التوصل إلى هدنة أو وقف إطلاق نار وتسريح عدد من السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية في مقابل تسليم بعض الرهائن المدنيين. وتسعى تلك القيادات أيضاً من خلال المفاوضات غير المباشرة إلى عودة النازحين الفلسطينيين لديارهم في شمال غزة، وذلك بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من هناك، وهو الأمر الذي ترفضه حكومة بنيامين نتنياهو حتى الآن.
وعلى الجانب الآخر، تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى استمرار حربها على القطاع إلى أن تحقق الانتصار– المستبعد- الذي حددته لنفسها وهو القضاء على حركة حماس واستئصالها من القطاع. فضلاً عن أنها فشلت في تحقيق نتائج ملموسة للمجتمع الإسرائيلي سواء بإنقاذ الرهائن أو قتل بعض من قيادات حماس مثل يحيى السنوار أو محمد الضيف، مما يشير إلى أهمية استمرار الحرب بالنسبة لنتنياهو. كما أن القيادات الأكثر عنصرية في حكومة نتنياهو تسعى أيضاً من خلال استمرارية الحرب إلى تهجير[13] الفلسطينيين وتدمير القطاع بالكامل من أجل إتاحة الفرصة مرة أخرى لعودة الإسرائيليين والاستيطان الصهيوني إلى غزة.
كل ذلك يدل على أن "اليوم التالي" لن يأت ضمن جولات المفاوضات الحالية، ذلك لأن الصفقة وإن تمت ستكون هدنة مؤقتة أو وقف إطلاق نار إنسانياً مؤقتاً، مما يعني أنها ستحتاج في أعقابها إلى "ماراثون دبلوماسي" لتتحول من صفقة مؤقتة إلى اتفاقية دائمة، وهو الأمر الذي يصعب في ظل غياب حسم عسكري على الأرض وأيضاً غياب رؤى متفق عليها حول طبيعة "اليوم التالي" كما سنوضح في النقطة التالية.
رؤى مختلفة
يختلف غالبية أطراف الصراع في غزة حول طبيعة "اليوم التالي". ولعله من الطبيعي أن تختلف إسرائيل وحماس على ملامح ما بعد الحرب، غير أن الفاعلين الدوليين والإقليميين أيضاً لهم رؤى متباينة مع أطراف الصراع حول تلك المرحلة. فالولايات المتحدة ترى[14] اليوم التالي على أساس حل الدولتين، وربط قطاع غزة بالضفة الغربية، وعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بعد إجراء إصلاحات سياسية داخلها وتنشيط مؤسساتها مع الالتزام بإقصاء حماس من السلطة، والتأكيد على أن غزة لن تصبح مصدر تهديد لأمن إسرائيل. وتهدف تلك الإجراءات في النهاية إلى قيام دولة فلسطينية من خلال تفاوض السلطة الفلسطينية مع إسرائيل برعاية دولية، وهو الأمر الذي تؤيده بعض الدول العربية، والسلطة الفلسطينية نفسها في مجمله، وإن كان هناك بعض التحفظ على التدخل الأمريكي في تحديد الفصائل المشاركة في الحكم ومسألة إقصاء حماس من المعادلة السياسية.
أما حماس، فترى[15] "اليوم التالي" في غزة شأناً فلسطينياً خالصا ًمن جهة تحديد الحكومة والفصائل المشاركة في الحكم. وبالرغم من أن حماس لم تحسم أمرها بشأن مشاركتها في الحكومة المقبلة، إلا أنها بالقطع ستواصل تواجدها بالقطاع، ولن تقبل بأى إملاءات غربية وإسرائيلية حول مستقبلها في القطاع. كما أنها لن تقبل بمسألة نزع سلاح المقاومة. وعلى ذلك، فحماس تحتاج إلى التوصل إلى تفاهم ما مع السلطة الفلسطينية حول مستقبل القطاع بعد الحرب.
في حين يري[16] نتنياهو "اليوم التالي" في القطاع وقد احتفظت إسرائيل لنفسها بالسيطرة على الوضع الأمني بالكامل، وكرَّست الفصل بين غزة والضفة الغربية، وأقصت حماس والسلطة الفلسطينية عن حكم القطاع، واستبدلتهم بإدارة محلية من القطاع سواء من بعض العشائر التي لا ترى حرجاً في التعاون مع إسرائيل أو بعض المدنيين غير ذي صلة بحركة فتح أو حماس.
وعلى ذلك، فالبون شاسع بين المتحاربين والشركاء الدوليين والإقليميين حول مرحلة ما بعد الحرب. ويتضح من الأحداث الجارية وجود ثلاث خلافات رئيسية: الخلاف الأول، بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول طريقة الحرب، واستهداف المدنيين ومستقبل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وحل الدولتين. والخلاف الثاني، يشمل الأحزاب الإسرائيلية نفسها سواء الأحزاب اليمينية المتطرفة أو الأحزاب الأكثر برجماتية حول حل الدولتين وإدارة العلاقات مع الولايات المتحدة وسعى حكومة نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب حماية لمستقبله السياسي. أما الخلاف الثالث والأخير، فهو خلاف فلسطيني- فلسطيني ويتضمن مفاوضات الهدنة ومستقبل القضية الفلسطينية وطبيعة الحكومة القادمة، وهي أمور يصعب حسمها حالياً، وبالتالي يصعب التكهن منها بقرب ميلاد "اليوم التالي" وملامحه في غزة.
وفيما يتعلق بالسبب الأخير الذي قد يساهم في تأخر "اليوم التالي"، فهو اتساع جبهات المقاومة ضد إسرائيل لتضم فاعلين من غير الدول مثل حزب الله في لبنان وأنصار الله الحوثيين في اليمن وجبهة المقاومة الإسلامية في العراق والمليشيات الموالية لإيران في سوريا بجانب الحرس الثوري الإيراني الذي يتحرك في كل تلك الدول، وهو تطور[17] استراتيجي مهم، وإن تسارعت وتيرته بسبب استمرار الحرب فسيكرس لبزوغ محور ايراني القيادة ضد النظام الإقليمي السائد. وقد يكون له تأثير أكبر حجماً على مجريات الأمور سواء تطورات الحرب ميدانياً أو سير المفاوضات. وسينعكس ذلك من خلال زيادة التنسيق مع حماس، وتقديم الدعم السياسي والمادي لها، الأمر الذي ستستغله حماس لا محالة في سياستها أملاً في صمودها عسكرياً داخل غزة وتحسين موقفها التفاوضي، والبناء على توقعها بزيادة الضغوط الأمريكية الغربية والعربية على إسرائيل من أجل وقف إطلاق نار تحت أى مسمى. ويعكس موقف تلك الدول العربية والغربية سعيها إلى تهدئة الإقليم المشتعل واستقراره والحيلولة دون زيادة النفوذ الإيراني.
مما لا شك فيه أن حرب غزة قد أشعلت الإقليم، ورسَّخت بواعث عدم استقراره، وأن الشرق الأوسط لن يعود إلى ما كان عليه قبل 7 أكتوبر الماضي. كما أن كل يوم تستمر فيه الحرب تزداد معه معاناة الشعب الفلسطيني. ولعل بزوغ "اليوم التالي" كما ينتظره الفلسطينيون دون احتلال وحصار وتضييق لا يزال بعيداً، إلا أنه قادم لا محالة.
الكاتب
د. كريم القاضي – مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية