نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 82

الثلاثاء 06 شباط 2024

سنبقى في جائحة القلق لفترة لأنّ الانقسامات تحول دون الحسم القاطع الآن

من الصحافة اخترنا لكم

راغدة درغام

- النهار العربي 17/1/2024

الانقسامات الداخلية في كل من الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل وبين الفلسطينيين، تختلف في أنواعها، لكن العقائدية تشكّل قاسماً مشتركاً بالذات بين الطرفين الإيراني والإسرائيلي. كل منهما يواجه التحدّيات لعقيدته بمزيد من تصدير مشاكله الداخلية الى الخارج وتوسيع رقعة الاصطدام بالمباشر وبالنيابة، تارةً بمواقف مريبة وخجولة وتارةً بمنتهى الوقاحة الاستراتيجية.

إدارة الرئيس جو بايدن تغرق في نيران السياسة الخارجية ببعدي إيران وإسرائيل، وسط حملة انتخابية مصيرية لبايدن وللحزب الديموقراطي. الجمهورية الإسلامية الإيرانية تسعى وراء توازنٍ ما، لأنّها إما غير مستعدة أو ليست جاهزة للتورط في حرب مباشرة مع إسرائيل. لذلك تحاول طهران إعادة ترتيب rearrange نظام سيطرتها ونفوذها على أذرعها بما يتناسق مع أولوياتها، وبما يعيد اليها أدوات السيطرة القاطعة على عملائها لاحتواء الفوضى وانفلات بعض الأذرع على حسابها الخاص.

إسرائيل تعمِّق القبر الذي يحفره لها رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، إذا استطاع فرض نفسه عليها وعلى الحليف الأميركي بأجندته الإبادية وبتعنته في رفض حل الدولتين ومكافحته قيام الدولة الفلسطينية، حتى وإن كان على حساب العلاقات الاستراتيجية والتحالفية مع الولايات المتحدة.

الفلسطينيون مستمرون في التمزّق والانقسام والعداء بين الحركات الإسلامية وبين الحركات الوطنية، لأنّ ما يفرّقهما ليس النزاع على السلطة فحسب، وإنما المعركة العقائدية.

أما المرشح الجمهوري المفترض للرئاسة الأميركية دونالد ترامب، فإنّه في هذه المرحلة الانتخابية المهمّة يركّز قطعاً على الشؤون الداخلية، ويرفض الانجرار الى الشؤون الخارجية الخطيرة تلك الممتدة من البحر الأحمر الى البحر الأبيض المتوسط أو تلك التي تغلي في شبه الجزيرة الكورية.

لنبدأ من موقع الرئيس السابق دونالد ترامب. قيل حينذاك إنّ سبب تمكّن جو بايدن من الفوز بالرئاسة أمام ترامب هو أنّ استراتيجية بايدن كانت ألاّ يفعل شيئاً وأن يترك لترامب ساحة الانزلاق في الهفوات والأخطاء. هذه المرّة، يبدو أنّ ترامب لا ينوي في هذه المرحلة أن يفعل شيئاً، وأن يترك تحدّيات السياسة الخارجية لبايدن ليبحر في الانزلاق فيها.

دونالد ترامب لا يريد أن يتحمّل أية مسؤولية لأي ما يحدث في السياسة الخارجية. من روسيا إلى إسرائيل إلى الصين إلى إيران إلى كوريا الشمالية، لا يهتم ترامب في هذا المنعطف بالتطورات هناك، وإنما يركّز الآن على فوزه في المعركة الانتخابية الرئاسية. وبعد ذلك، لكل حادث حديث. كل ما يقوله هو أنّ حرباً عالمية ثالثة لن تحدث إطلاقاً إذا عاد هو إلى البيت الأبيض.

ترامب يتباهى بأن لا حروب وقعت أثناء رئاسته، فيما ورّط بايدن أميركا في الحرب الأوكرانية. يعتبر نفسه رجل الحزم والجديّة الرافض للخضوع للابتزاز الإيراني، فهو يؤمن بسلاح العقوبات وليس بالانجرار إلى الحروب والصفقات الفاشلة كما يفعل بايدن، في رأيه. ترامب يؤمن أنّه يتقن فن إبرام الصفقة ويقول إنّه لو كان رئيساً لما تورطت الولايات المتحدة في حرب ناتو مع روسيا في أوكرنيا.

عام 2020 تقدّم ترامب برؤيته لحل الدولتين- حل رفضه الفلسطينيون لأنّه أغدق على نتنياهو المبتسم بجانبه كل ما أراده وترك الفلسطينيين في وعد "دولة" مبهمة ومقيّدة. ما يفتخر به فريق ترامب هو أنّه توصل الى الاتفاقيات الإبراهيمية، والتي أدّت الى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية في طليعتها الإمارات والمغرب والبحرين والسودان، نتيجة جهود صهر ترامب جاريد كوشنر. كوشنر لا يريد النجاح لجهود فريق بايدن الذي يعمل نحو تسوية شاملة بين الدول العربية الخليجية وعلى رأسها السعودية وبين إسرائيل، لأنّه يريد أن يكون هو عرّاب التطبيع بين السعودية وإسرائيل، ولأنّه يؤمن أنّه هو صاحب الإنجاز التاريخي.

فريق ترامب لا يوافق على أي تفاوض مع حركة "حماس" التي يصنّفها إرهاباً كما "داعش"، وهو ينتقد فريق بايدن لأنّه يرى أن لا مجال لإنقاذ الرهائن سوى بالتفاوض الإسرائيلي مع "حماس" عبر قطر أو تركيا. كما أنّ فريق بايدن لا يرى مجالاً للقضاء الكامل على "حماس" بل يرى ضرورة لتفاهمات جذرية بين جميع الفلسطينيين لإدارة غزة بعد الحرب، فيما فريق ترامب يريد استئصال "حماس".

دونالد ترامب وفريقه يعارضون قطعاً سياسة جو بايدن وفريقه نحو إيران وأذرعها مثل الحوثي في اليمن، و"حزب الله" في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، ووكلاء الحرس الثوري الإيراني في سوريا. ترامب لا يثق بأنّ هناك تفكيراً تجددياً في طهران، وأنّ إيران الجديدة تتبنّى عقيدة معدّلة reformed ideology قوامها الاعتدال والتوصّل الى تسويات سياسية اقليمية، بالذات مع إسرائيل.

وبالتالي، في رأي هذا الفريق، أنّ فريق بايدن فاشل في صلب فكره واستراتيجيته القائمة على التفاهمات مع طهران عبر دولٍ ثالثة مثل عُمان وقطر، لفك الحجز على أموالها أو لرفع العقوبات عنها واستئناف الاتفاقية النووية معها. الجمهورية الإسلامية الإيرانية تُحسن فن المناورات وهي تدّعي الديبلوماسية الناعمة وتبتعد عن توسيع حلقة الحرب، لأنّ خيار الحرب سيصيبها في الصميم، والحرب ستدمّر نظامها- هكذا يفكّر فريق ترامب.

فترامب لا ينظر إلى لجم إيران عن دخول الحرب بأنّه إنجاز ديبلوماسي لفريق بايدن أو للمنطقة، بل يرى فيه خطورة التفاهمات عبر القنوات الخلفية، فيما طهران تشتري الوقت لاستكمال برنامجها النووي لتعود إلى سياسة الاستقواء وإلى تحريك أذرعها في كل مكان. أما عودة إدارة بايدن عن قرارها السابق بإعفاء الحوثيين من قائمة الإرهاب ثم العودة مؤخّراً الى إدراج الحوثي على القائمة، فإنّه مثال على أخطاء مصيرية لبايدن وللحزب الديموقراطي برمته.

إيران بالطبع ترى في عودة ترامب الى البيت الأبيض كارثة لها، ولذلك ستحاول أن تعاون فريق بايدن على احتواء الحرب ومنع توسّعها، وعلى عدم عرقلة حل الدولتين الذي تعمل عليه إدارة بايدن مع الدول العربية.

إسرائيل، وبالذات نتنياهو، سيشتري الوقت مراهناً على فوز ترامب، وقد يلجأ الى توسيع الحرب رغم أنف الرئيس بايدن الذي يكنّ له نتنياهو كل عداء وكراهية. ما لا يفهمه نتنياهو هو أنّ ترامب ليس في وارد تقديم خدماته الى إسرائيل كما يتصورها نتنياهو. فترامب يدرك تماماً أهمية المرحلة وما تنطوي عليها من مخاطر وفرص تاريخية. وهو لن يضحّي بكامل علاقاته مع الدول العربية، وبالذات السعودية، نزولاً عند نزوات نتنياهو وأفكاره المخرِّبة والمريضة.

الانقسامات نحو نتنياهو ليست أميركية وإسرائيلية فحسب، وإنما هي أيضاً أوروبية وعالمية. فائدته تكمن في فجور وضوحه، عكس الذين يختبئون وراء الادعاءات الكاذبة. لكن تعنّته ووقاحة رفض حل الدولتين الذي يلاقي الإجماع العالمي وتدعمه الولايات المتحدة، لأنّه فعلاً في المصلحة الإسرائيلية، وهي تقدّم الضمانات الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية لإسرائيل مقابل قبولها به، إنما هو فجور يستدعي الإجراءات.

ليس كافياً أن يقفل الرئيس بايدن سماعة الهاتف في وجه بنيامين نتنياهو، لا سيّما وأنّ بايدن كان ارتكب الخطأ الأحمق عندما عانق نتنياهو بتضامنٍ وأسى في أول زيارة له لإسرائيل بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر). كان على بايدن أن يعرف شخصية الرجل الذي عانقه وكاد يبكي على كتفه، وكيف أنّ الكثير من الإسرائيليين واليهود الأميركيين يعتبرونه مفتاح دمار إسرائيل.

أمام الرئيس الأميركي اليوم، وكذلك أمام القيادات الأوروبية الملتزمة أمن إسرائيل، خيارات لإنقاذ إسرائيل من نتنياهو ومن استدراجه منطقة الشرق الأوسط الى حرب يورّط فيها الولايات المتحدة ودولاً أوروبية- حرب بين إسرائيل وإيران ومع الأذرع الإيرانية. هذا من ناحية. من ناحية أخرى، على القيادات الأميركية والأوروبية ألاّ تكتفي بتطمينات شفوية أو بمسكنة أو بابتزازات أو بادعاءات إيرانية بأنّها لا تتحكّم بأذرعها، وهي تتنصّل من أفعال الأذرع مثل ما قامت به حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) أو ما يقوم به الحوثي من تهديد لأمن وسلامة الملاحة العالمية في البحر الأحمر.

ما نجحت به إدارة بايدن حتى الآن هو الضغط على إسرائيل بألاّ تفتح جبهة حرب مع "حزب الله" في لبنان- وهذا أمر جيد بالتأكيد، إنما هو إجراء ضمن الإجراءات الموقتة والانتقالية التي يركّز عليها فريق بايدن، لأنّ ليس أمامه خيارات عديدة لينتقي منها. إنّه يراهن على إيران، وهذه مجازفة استراتيجية، وهو يراهن على تفهم اسرائيل وهذه مغامرة استراتيجية. الأوروبيون يحسنون كثرة الكلام وقلّة الأفعال، وهم لن يستخدموا الأداة الوحيدة لديهم وهي أداة العقوبات على كل من إسرائيل وإيران.

التصعيد الأخير في مواقف بنيامين نتنياهو هو تصعيد مباشر ضدّ جو بايدن. هذا تطوّر يغيّر المعادلة، لأنّ نتنياهو دخل حلبة الانتخابات الرئاسية الأميركية مؤمناً بأنّ الصوت اليهودي والمال اليهودي والنفوذ اليهودي الأميركي، سيتوجّه نحو مصلحة إسرائيل وليس نحو مصلحة جو بايدن أو الحزب الديموقراطي الموالي تقليدياً لإسرائيل. العبء يقع على أكتاف الذين يراهن عليهم نتنياهو. فهو وضع المعادلة كالتالي، كما قال: إنّ هذا الصراع ليس على وجود دولة فلسطينية وإنما هو على وجود دولة يهودية.

هكذا، وبكل وقاحة وعنصرية وفوقية، استدعى بنيامين نتنياهو يهود العالم إلى مقاومة حل الدولتين ومكافحة وجود دولة فلسطينية من زاوية استمرارية إسرائيل كدولة محض يهودية، لا تتحمّل دولة فلسطينية بجانبها. بل أكثر، إنّ مشروع نتنياهو هو التنظيف العرقي داخل إسرائيل، والعمل ليس فقط على التهجير القسري للفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، وإنما الإبعاد القسري للفلسطينيين داخل إسرائيل الذين يعتبرهم قنبلة موقوتة.

إدارة بايدن ما زالت تحاول التوصل الى اتفاقية مع إسرائيل، انتقالية وموقتة، تنطلق من تخفيض إسرائيل وتيرة حربها على غزة وإبادتها المدنيين لفترة موقتة، يتمّ خلالها وضع الترتيبات لصفقة ضمانات أمنية مقابل موافقة إسرائيل على معادلة مرنة Flexible لمبدأ حل الدولتين. البعض يسمّي ذلك "عملية" process، والبعض يعتبره لعباً على الكلام كما تقتضي الديبلوماسية.

المهم أننا ما زلنا في دائرة الخطر والمزايدات. الواضح أنّ داخل إسرائيل انقسامات، وكذلك داخل إيران التي بدأت هذا الأسبوع شن ضربات مباشرة، وليس عبر أذرعها، ضدّ العراق وباكستان وفي سوريا.

كلاهما يتخبّط. كلاهما يبحث عن صيغة إنقاذ ماء الوجه. كلاهما تكبّله عقيدته. إنما اللافت، ولربما المُنقِذ، هو أنّ كلاً من إيران وإسرائيل يدّعي أنّه يريد فناء الآخر، لكنه في صميمه لا يستطيع، بل لا يريد أن يفعل.

فلنراقب ولننتظر. فلا خروج بعد من حلقة القلق، إنما لا دخول بعد إلى حلقة الحسم العسكري المرعب.


الكاتب

راغدة درغام

مقالات أخرى للكاتب

العدد 75

الثلاثاء 27 حزيران 2023

بلينكن في الرياض: إصلاح لغة الخطاب السياسي وإطلاق قواعد الشراكات الجديدة

راغدة درغام


إدارة الرئيس الأميركي الديموقراطي جو بايدن بمحورية القيادة السعودية خليجياً وعربياً واقليمياً وعلى صعيد القضايا العالمية ليس أمراً عابراً، وإنما هو تحوّل جذري في ذهن وأداء هذه الإدارة، وتطوّرٌ

العدد 69

الخميس 29 كانون الأول 2022

قمم الرياض مع الصّين: آفاق الثّقة الاستراتيجية والرؤيويّة السّعودية

راغدة درغام


مدهشة هذه الانطلاقة البنّاءة في الدول الخليجية العربية، حيث القيادات الرؤيوية والشابة تستبق المستقبل بالجرأة على الحلم والتخطيط والإصلاح، والعزم على عقد شراكة الازدهار والسعادة مع المواطنين.


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك