تهجير الفلسطينيين في الاستراتيجية الصهيونية
دراسات
بشير عبد الفتاح - جريدة الشروق
تشكل مخططات الحكومة اليمينية الإسرائيلية المتطرفة الحالية، لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية، امتدادًا طبيعيًّا لاستراتيجية «الترانسفير»، أو الترحيل القسرى الجماعى، التى انتهجها الاحتلال الصهيونى حيال الفلسطينيين، منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.
تبنى الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية تلك الاستراتيجية باعتبارها السبيل الأمثل لبلوغ حلم إقامة دولة يهودية خالصة؛ والحل الأنجع، لما كان يعرف، حينها، «المعضلة العربية»، المتمثلة فى وجود أعداد غفيرة من العرب يسكنون تلك الأرض منذ زمن. وجليا، تبدى ذلك التوجه فى أدبيات مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة «تيودور هرتسيل»، ومن سار على دربه، وصولا إلى «بن جوريون» أول رئيس وزراء لإسرائيل، والذى قنن وأسس للترحيل الممنهج للفلسطينيين، عبر بلورة مشروع التهجير عام 1937، الذى استقى منه المستوطنون الصهاينة مصطلح «الترانسفير»، عام 1948، لوصف ما بات يعرف لاحقًا بالتطهير العرقى.
يرى عالم الأنثروبولوجيا الإسرائيلى، جيف هالبر، «أن الصهيونية بوصفها حركة استعمارية استيطانية، ما هى إلا قصة تهجير للسكان العرب الأصليين من فلسطين، توطئة لسلبهم أراضيهم. فلقد جاء الصهاينة إلى فلسطين بقصد تحويلها من دولة عربية إلى دولة يهودية إسرائيلية. ونتيجة لعمليات التهجير واقتضام الأرض، التى تنتهجها الحركة الصهيونية، بشكل ممنهج منذ 125 عامًا، اضطر سبعة ملايين فلسطينى للعيش كلاجئين خارج أراضيهم، بينما يقبع ستة ملايين آخرون داخلها، تحت الحصار والاضطهاد، فى مناطق محدودة وفقيرة».
ما إن فجع قادة الحركة الصهيونية الأوائل بمعرفة العالم أن أرض فلسطين ليست صحراء خالية، وأن شعبا عربيًّا يقطنها؛ حتى لجأوا إلى تبرير استيلائهم عليها حضاريًّا؛ عبر اعتماد نظرية «الفراغ الحضارى»، التى تبناها الاستعمار الغربى، بمختلف مضامينها العنصرية. ومن ثم، زعموا أن شعب فلسطين يتذيل ركب الحضارة والرقى، بما يستوجب احتلالا صهيونيا لتشييد نموذج حضارى فى بيئة بدوية. ففى كتابه «دولة اليهود»، «ادعى، هرتزيل، أن أرض إسرائيل هى وطن اليهود التاريخى الذى يجب أن يشكل جدارًا عازلاً لحماية الحضارة الغربية من تهديد الهمجية. توسلاً لنزع الشرعية عن الوجود العربى فى فلسطين، اعتبر زعماء الحركة الصهيونية عرب فلسطين حفنة من المهمشين البدائيين، والغزاة المحتلين لأرض الميعاد. وبإيعاز صهيونى، تم تضمين ذلك التصور الزائف فى ثنايا «تصريح بلفور» عام1917. حيث دعا إلى إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين، دون أن يأتى على ذكر المواطنين العرب، الذين اعتبرهم «طوائف غير يهودية»، أقرب إلى أقلية هامشية منعدمة الهوية والكيان.
فى مسعى منهم لتسويغ التهجير القسرى للفلسطينيين، توراتيا، زعم أساطين الفكر الصهيونى أن أرض فلسطين وهبها الله إلى نبيه إبراهيم، لكن ولده إسماعيل اغتصبها من أخيه إسحاق. وبناء عليه، اعتبروا ساكنيها العرب غزاة مغتصبين؛ ومن حق اليهود اعتماد السبل الكفيلة باسترجاع أرضهم منهم. وانطلاقا من هذه المقاربة الدينية، عمدت الجماعات الصهيونية إلى استقدام أكبر عدد ممكن من يهود العالم، بموازاة تخيير الفلسطينيين ما بين الإبادة أو التهجير، حتى يتحقق الحلم الصهيونى بإقامة الدولة اليهودية الخالصة على أرض فلسطين بأكملها.
ديمجرافيا، عمد الصهيونيون الأوائل إلى تجاهل وجود الشعب الفلسطينى على أرضه العامرة، ورسموا مشهدًا زائفًا لفلسطين باعتبارها صحراء خاوية، تنتظر المعمرين اليهود. ففى خطب، هرتزيل، أمام المؤتمرات الصهيونية الستة، كما فى كتابه المعنون «دولة اليهود»، لم يرد أى ذكر للسكان الأصليين العرب، سوى مرة يتيمة. الأمر الذى أسس للفرية، التى استعارها الأديب الإنجليزى الصهيونى، إسرائيل زانغويل، عام 1882، من تيار «الصهيونية المسيحية»، واللورد شافتسبرى، ثم أوردها فى مقال نشرته مجلة «نيو ليبرال ريفيو» عام 1901، ومفادها «فلسطين أرض بلا شعب ينبغى أن تعطى لشعب بلا أرض». وكانت فكرة «الأرض الخالية» تعنى، فى نظر، زانغويل، أن سكان فلسطين هم «أشباه بدو» لا يمتلكون أية روابط ثقافية أو قومية، تربطهم بالأرض التى يسكنونها. وهو ما ييسر عمليات رحيلهم عن هذه الأرض، أو تهجيرهم منها عنوة.
خلافًا للسردية الصهيونية، التى تزعم أن مئات الآلاف من الفلسطينيين تركوا أراضيهم طوعًا، أو بدعوات من الجيوش العربية التى دخلت فلسطين، فى مايو 1948، أو بإيعاز من الإذاعات العربية؛ قدم، بنى موريس، وهو من تيار المؤرخين اليهود الجدد، سردية جديدة بهذا الصدد. واستنادًا إلى وثائق إسرائيلية رسمية أفرج عنها مؤخرًا، توصل إلى أن الفظائع، التى اقترفتها «الهاغاناة»، كانت سبب ذلك التهجير. كذلك، أثبت مؤرخون كمثل، وليد الخالدى، نور مصالحه، وإيلان بابه، أن ترك الفلسطينيين أراضيهم، جاء نتيجة ترهيب وإرغام، رسمت ملامحهما خطة صهيونية، أشرف عليها، بن غوريون، وعُرفت باسم الخطة «د» أو «دالت». وهى التى استغرق تنفيذها نحو ستة أشهر، ونجم عنها «النكبة الأولى»، إثر ترحيل نحو 800,000 فلسطينى خارج أرضهم. فانطلاقًا من تعاطيه مع الفلسطينيين باعتبارهم «البطن الرخو» التى يتم على حسابها، تهيئة الأجواء لاستقبال المهاجرين اليهود الجدد، أمعن الاحتلال فى تضيّيق الخناق على الوجود العربى بالمدن المختلطة، عبر هدم البيوت ومصادرة الأراضى، بذريعة «المنفعة العامة» أو «منفعة الجمهور».
ارتكن مشروع التهجير الصهيونى للفلسطينيين على دعم دولى. ففى نوفمبر 1937، أرسلت بريطانيا لجنة تحقيق برئاسة، اللورد بيل، أصدرت تقريرًا يشرعن عمليات الإجلاء للفلسطينيين عن أراضيهم وبيوتهم. وفى عام 1942، طالب برنامج مؤتمر بلتيمور بنيويورك، بفتح باب الهجرة إلى فلسطين، وإقامة مستوطنات على الأراضى، التى لم يحتلها الصهاينة بعد. وما كادت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها، حتى حصلت الحركة الصهيونية على «تصريح بلفور أمريكى»، لتأييد تهجير الفلسطينيين خارج وطنهم. وقبل أشهر من القرار الأممى بتقسيم فلسطين عام 1947، كان الصهاينة قد أتموا استعداداتهم العسكرية، لتنفيذ مخطط التهجير القسرى للفلسطينيين، بدعم وتواطؤ من لدن بريطانيا وأمريكا.
بعد احتلال غزة عام 1967، طرح نائب رئيس حكومة الاحتلال حينها، إيغآل ألون، مشروعًا لنقل بعض قاطنيه إلى عريش مصر؛ لكن القاهرة أجهضته. وفى عقبها، دعم السيناتور الأمريكى، إدوارد كينيدى، خطة لتوزيع 200 ألف لاجئ من قطاع غزة حول العالم. وفى سنة 1971، طرح قائد المنطقة الجنوبية بجيش الاحتلال، أريئيل شارون، مشروعًا لاقتلاع 12 ألف لاجئ من مخيمات القطاع، وتوطينهم فى صحراء سيناء، بيد أن مصر تصدت له. فى أكتوبر الماضى، أصدرت وزارة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تقريرًا يقترح ترحيل سكان غزة إلى سيناء، مع إقامة منطقة عازلة بعمق عدة كيلومترات على الحدود المصرية ــ الإسرائيلية. ودعا واشنطن وحلفاءها الأوروبيين للضغط على مصر للموافقة، مقابل مساعدات مالية. واقترح التقرير توفير السعودية سلة دعم، وتخصيصها ميزانية لتمويل نقل الفلسطينيين، الرافضين للإقامة بسيناء، إلى دول أخرى تقبل استيعابهم وتوطينهم.
على صعيد موازٍ، تشهد الضفة الغربية عمليات تهجير داخلى. فبدعم من جيش الاحتلال، تقوم ميليشيات المستوطنين المسلحين، بإجبار أعداد هائلة من المزارعين ورعاة الأغنام الفلسطينيين على ترك أراضيهم ومزارعهم فى المنطقة (ج)، خصوصًا فى القرى والخِرب الواقعة على السفوح الشرقية لجبال رام الله، وفى جبال محافظة الخليل. وبحسب منظمة «بتسيلم» الحقوقية الإسرائيلية، اضطر قاطنو 13 تجمعًا سكنيًّا فلسطينيًّا على الفرار، إثر تعرضهم لهجوم المستوطنين، منذ 7 أكتوبر الفائت.
إلى جانب الصمود الفلسطينى الأسطورى، ساعدت صلابة الموقفين المصرى والأردنى على إجهاض مخطط حكومة نتنياهو لتهجير الفلسطينيين من غزة والضفة. فبينما اعتبره، الرئيس، أبو مازن، «نكبة ثانية»؛ ارتآه العاهل الأردنى، بمثابة إعلان حرب. أما الرئيس، السيسى، فحذر من أن تفضى تصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار، إلى تقويض فرص إقامة الدولة الفلسطينية، والزج بمصر وإسرائيل إلى أتون الحرب.
الكاتب
بشير عبد الفتاح - جريدة الشروق