تأليف:
وليد خدوري
سنة النشر:
2024
اللغة:
عربي
عدد الصفحات:
15
ملخص تنفيذي
أثار حقل "غزة مارين" اهتماماً كبيراً عند اكتشافه قبل نحو عقدين من الزمن نظراً إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه الريع الغازي في تنمية الاقتصاد الفلسطيني. لكن عوامل عديدة أدت إلى تأخير تطوير الحقل الذي اكتشفه كونسورتيوم بقيادة الشركة البريطانية "بريتش غاز".
ركزت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جهودها لتأخير وتعطيل تطوير الحقل لكي لا تتمكن السلطة الفلسطينية والمنظمات الفلسطينية في قطاع غزة، وبالذات حركة "حماس"، من بدء الإنتاج.
تعددت المحاولات والوسائل الإسرائيلية لوضع اليد على غاز "غزة مارين" الذي قد يتدفق إلى قطاع غزة. فعلى سبيل المثال، حاولت الشركات البترولية الإسرائيلية، بمساندة الحكومة، وضع اليد على غاز "غزة مارين" في حال توجهه إلى قطاع غزة، وضمه إلى الشبكة الغازية الإسرائيلية التي بدأت تتوسع مع بداية الاكتشافات البحرية الإسرائيلية في بداية الألفية. كما اهتمت إسرائيل أيضاً بالإشراف المباشر على كمية الغاز التي قد تتدفق إلى قطاع غزة، أو ربما الضفة الغربية، مستقبلاً، لكي تحصل على معلومات دقيقة عن الريع الغازي المتوفر لكل منهما "في تمويل الأعمال الإرهابية"، كما تزعم.
برزت كذلك خلافات عديدة بين السلطة الفلسطينية المسؤولة عن الحقل، والتي مُنحت حقوق الامتياز لاكتشافه ثم تطويره، وحركة "حماس" التي استلمت الحكم في قطاع غزة.
ومما لا شك فيه أن اكتشاف حقل "غزة مارين" شكل فرصة لبروز مرحلة اقتصادية مهمة في الأراضي الفلسطينية (قطاع غزة والضفة الغربية) نظراً إلى الصعوبات الاقتصادية التي تواجه القطاع والضفة. لكن، ما أثر أيضاً في تأخير تطوير الحقل، هو الحجم الصغير نسبياً لاحتياطي الحقل (1.4 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي)، وهو ما يجعل حجم احتياطي الحقل من الحقول الصغيرة في حوض شرق المتوسط، وخصوصاً أن هناك جزءاً صغيراً من الحقل الحدودي (غزة مارين2) على مشارف الحدود البحرية الفلسطينية-الإسرائيلية بالقرب جداً من الحقل "ماري ب" وحقل "نوا" في جنوب المياه الإسرائيلية، الأمر الذي يفتح المجال لاستعمال إنتاج الحقلين (غزة مارين2 وماري ب) في مشروع مشترك. ومن الجدير بالذكر أن "غزة مارين 2" (الحقل الحدودي) يقع في المنطقة الأمنية "K" المحاذية للحدود مع إسرائيل.
يُعتبر حقلا "ماري ب" و"نوا" من الحقول الغازية الأولى المكتشفة في المياه الإسرائيلية، وذات احتياطات محدودة جداً أيضاً، إذ يتوقع استنزافهما في المستقبل القريب.
في سنة 2002 أغلقت "بريتش غاز" مكتبها في تل أبيب بسبب فشل المفاوضات مع السلطات الإسرائيلية بشأن تطوير الحقل ومسألة تسلم إسرائيل الريع الغازي وإيداعه في حساب خاص، توزع منه الأموال للسلطة الفلسطينية، كما هو الأمر مع الضرائب والجمارك.
وجرت مفاوضات أُخرى، لكنها فشلت أيضاً، بشأن إمكان تزويد قطاع غزة بالغاز، إذ أصرت إسرائيل على وضع اليد على كمية من الغاز الذي سيتدفق إلى غزة، وتسليم ما سمته اعتباطاً "فائض الغاز" إلى كونسورتيوم إسرائيلي (يام ثيتاس) بسعر مخفض لاستخدامه في تلبية الطلب المحلي الإسرائيلي. كما طلبت الحكومة أن يتولى هذا الكونسورتيوم تسويق الغاز لمحطة كهرباء غزة.
في سنة 2016 باعت "بريتش غاز" حصتها في الامتياز لشركة "رويال دتش شل" كجزء من استحواذ "شل" على مجمل ممتلكات "بريتش غاز" في العالم. وقررت "شل" بدورها الانسحاب من تطوير الحقل لصعوبة الاتفاق مع إسرائيل والمخاطر الجيوسياسية التي تواجه الحقل. وبما أن "شل" شركة نفطية عملاقة، فإن صغر احتياطي الحقل والصعوبات الجيوسياسية أديا إلى التخلي عنه للتركيز على مشاريع أُخرى حول العالم.
وعلى ضوء انسحاب "شل"، أُعيدت هيكلة الكونسورتيوم لتصبح حصة "شركة اتحاد المقاولين" 27.5%، وحصة صندوق الاستثمار الفلسطيني 27.5%، الذي بدأ بمحاولات جديدة للعثور على شريك استراتيجي.
بيان إعلامي غامض من مكتب نتنياهو لتطوير الحقل
على الأثر، بادر "صندوق الاستثمار الفلسطيني" إلى إجراء محادثات مطولة مع شركات فلسطينية ومصرية لتطوير حقل "غزة مارين"، وبالتحديد شركة اتحاد المقاولين والشركة المصرية القابضة للغازات لتطوير الحقول. وقُدرت كلفة تطوير الحقل في حينه بنحو 1.4 مليار دولار. لكن لم يمكن بإمكان الشركتين البدء في تطوير الحقل قبل صدور موافقة إسرائيلية رسمية للعمل تؤمن لهما ضماناً لدى المصارف.
كما أن الحصار البحري الذي تفرضه إسرائيل على النقل في مياه بحر غزة، يعني عملياً استحالة البدء في عملية التطوير قبل إنهاء الحصار.
في ضوء هذه العراقيل التي استمرت عقدين من الزمن تقريباً، أصدر مكتب نتنياهو بياناً "غامضاً" لا يمكن استعماله ضماناً في المصارف للحصول على القروض، وعليه، استمر توقف عملية تطوير الحقل.
وجاء في البيان الإعلامي لرئيس الحكومة الاسرائيلية، الذي صدر خلال النصف الأول من حزيران(يونيو) 2023:
".... كجزء من المسيرة الحالية بين دولة إسرائيل وكل من مصر والسلطة الفلسطينية، بالاهتمام لتطوير الاقتصاد الفلسطيني والمحافظة على الأمن والاستقرار في المنطقة. فقد تقرر المضي قدماً لتطوير حقل الغاز المقابل لساحل غزة...."[1]
لكن هذا البيان الإعلامي عن "الموافقة" الإسرائيلية جاء خالياً من ذكر الجهة أو الجهات الرسمية التي وافقت على التطوير.
وقد صاحب الإعلان الكثير من الاستغراب واللغط، اذ تتطلب عقود التطوير والإنتاج مع الشركات الدولية عادة الموافقة الرسمية (لمجلس الوزراء) وفي كثير من الأحيان، موافقة الهيئة التشريعية (الكنيست) على هذه المشاريع التي تكلف نفقات باهظة، ونشر القانون في "الجريدة الرسمية".
ومن الملفت للنظر أيضاً في البيان الإعلامي صدوره خلال فترة من أكثر فترات الخلافات الداخلية الإسرائيلية شدة، وبالتحديد حول إمكان نتنياهو تعديل الأنظمة القانونية لمصلحته، ومعارضة التظاهرات الجماهيرية لعدة أشهر ضد محاولته التدخل في شؤون السلطة القضائية، ناهيك عن الخلافات ضمن الائتلاف الحكومي لنتنياهو مع اليمين المتطرف. ومما زاد في اللغط تجاهل الخبر في الإعلام الإسرائيلي، الأمر الذي أثار بدوره، لاحقاً، الكثير من الشائعات والأخبار غير الدقيقة عن دور حقل "غزة مارين" في معركة غزة. ومن الجدير بالذكر، أن الإعلان هنا منقول عن موقع وكالة الأنباء الصينية (شنهوا) على الإنترنت.
لم تصدر أي متابعة إسرائيلية علنية بشأن الحقل بعد البيان الإعلامي، بسبب نشوب حرب غزة في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) 2023. كما لم تصدر حركة "حماس" بياناً رسمياً يوضح وجهة نظرها في موضوع تطوير الحقل، على الرغم من خلافاتها مع حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية.
كيف ولماذا تم إعلان الاتفاق في هذا الوقت بالذات؟ وهل يُعتبر البيان الصحافي استهلالياً، ولمَ التغاضي غير المسبوق عن قرار كهذا من وسائل الإعلام الإسرائيلية؟ وما هو مصير الاتفاق في ضوء حرب غزة، بالذات الحلول السياسية المنتظرة بعد نهاية الحرب؟ وهل سيتم تأسيس دولة فلسطينية، وما هي العلاقة المستقبلية بين "السلطة الفلسطينية" و"حماس" بعد الحرب؟ وكيف ستتعامل الجهة الحاكمة لقطاع غزة مستقبلاً مع الاتفاق؟ وما هو مصير اتفاق أوسلو في ضوء الحرب على غزة، وصلاحيات السلطة الفلسطينية في "غزة مارين"؟ وما هو دور مصر المستقبلي في المشروع؟
أدى غموض البيان الصحافي لمكتب نتنياهو، واندلاع الحرب على غزة إلى تدفق الشائعات، وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعليقات غير دقيقة عن دور استثمار حقل "غزة مارين" كأحد أسباب الحرب على غزة.
دور مصر في تسييل الغاز
أدت كل من مصر والسوق الأوروبية خلال النصف الأول من سنة 2023 دوراً في إمكان تطوير حقل "غزة مارين"، نظراً إلى مصالح كل منهما في الحصول على إمدادات غازية إضافية.
1. فمصر ترتبط باتفاقيات سابقة طويلة الأمد لإمداد الغاز المسال إلى بعض أقطار السوق الأوروبية المشتركة. وعلى الرغم من أن مصر هي أكبر دولة منتجة للغاز الطبيعي في شرق المتوسط، فإنها في الوقت نفسه، أكبر سوق مستهلكة للغاز في المنطقة، بسبب الزيادة السنوية العالية في عدد السكان الذي وصل حتى تاريخه إلى نحو 112 مليون نسمة. وبما أن مصر وسعت استهلاكها الداخلي للغاز لاستخدامه وقوداً لمحطات الكهرباء ومصانع الحديد والصلب والبتروكيماويات والنقل العام والمنازل، فقد بادرت إلى إعطاء الأولوية لتوجيه الغاز المصري إلى السوق الداخلية.
2. وبما أن حصة السوق الداخلية المصرية باتت تستحوذ على نسبة أكبر من الإنتاج على حساب حصة التصدير، فقد بادرت السلطات البترولية المصرية إلى استيراد الغاز الطبيعي من حقول الدول المجاورة (إسرائيل وقبرص)، وبالتحديد من الحقول الصغيرة الحجم التي لا يمكنها اقتصادياً تلبية حاجات مشاريع التصدير الباهظة الثمن.
ومن هنا تبرز المصلحة المصرية في تطوير حقل "غزة مارين" لتسييل ما يفيض عن حاجة قطاع غزة وتصديره كجزء من التزامها التجاري تجاه الأقطار الأوروبية. إذ إن مصر تتحمل خسائر مالية باهظة الثمن في حال عدم تنفيذ اتفاقيات تصدير الغاز المسال.
في الوقت نفسه، ومع اضطرار أقطار السوق الأوروبية المشتركة إلى استيراد الغاز من أسواق جديدة لتعويض مقاطعتهم الغاز الروسي في إثر نشوب الحرب الروسية - الأوكرانية في سنة 2022، برزت حاجة ملحة للدول الأوروبية إلى استيراد غاز مسال إضافي من أسواق جديدة وبالسرعة الممكنة. وقد دعمت الولايات المتحدة المحاولات الأوروبية هذه، كجزء من سياستها لمقاطعة روسيا خلال الحرب.
من الواضح، أن تصدير الغاز المسال هو خيار متاح للدول ذات الاحتياطات الغازية الضخمة. لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى اقتصادات الدول المحدودة الاحتياطات الغازية، إذ إن الغاز الذي يتميز بسعره المنافس للنفط، وبانخفاض انبعاثاته الكربونية، أصبح الوقود المفضل لتغذية محطات الكهرباء والمنازل السكنية والمصانع.
تسييل مصر غاز الدول المجاورة وتصديره إلى أوروبا
تمتلك مصر مصنعين لتسييل الغاز على شاطيء البحر الأبيض المتوسط، وهو وضع مميز أكسب مصر موقعاً تنافسياً مميزاً نظراً إلى قرب مصانعها من الأسواق الأوروبية.
أدت المقاطعة الأوروبية للبترول الروسي، إلى استبدال الغاز الروسي بالغاز الأميركي، أو من دول مصدرة أُخرى، وهو ما ساعد دول السوق الأوروبية المشتركة، بدعم من الولايات المتحدة ضمن سياستها لحصار روسيا في أثناء الحرب الروسية - الأوكرانية، على استخدام نفوذها أيضاً مع كل من مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية في تطوير حقل "غزة مارين" لضم كمية من إنتاجه إلى التسييل في المحطات المصرية، إلى جانب الغاز المصري والقبرصي والإسرائيلي للتصدير إلى الأسواق الأوروبية. ولم يتم الإعلان رسمياً، إذا كان تصدير الغاز سيقتصر على الحقل الحدودي "غزة مارين 2"، أم أنه سيشمل أيضاً، وبصورة مشتركة، الحقلين الإسرائيليين المجاورين "ماري ب" و"نوا". ومن الجدير ذكره، وجود خط أنابيب لنقل الغاز من منطقة الحقول هذه، تمتد من عسقلان إلى العريش، بالإضافة إلى خط أنابيب غاز من العريش إلى محطتي التسييل.
ويشكل الدور الأميركي في هذا المجال جزءاً من السياسة الأميركية في شرق المتوسط لتطوير الإنتاج الغازي في المنطقة، ولتشجيع سياسة التطبيع مع إسرائيل من خلال إطلاق سياسات ومشاريع غازية مشتركة.
اكتشاف حقل "غزة مارين"
في سنة 1999 منحت السلطة الفلسطينية امتيازاً حصرياً لشركة "بريتش غاز" البريطانية للعمل كمشغلة للاكتشاف في منطقة الامتياز لمدة 25 عاماً. وعلى الأثر بادرت "بريتش غاز" إلى تأسيس كونسورتيوم تألف منها (60%) ومن "شركة سي سي للنفط والغاز" (30%)، التي تملكها شركة "اتحاد المقاولين" المملوكة من رجال أعمال فلسطينيين، وصندوق الاستثمار الفلسطيني (10%) التابع للسلطة الفلسطينية. وفي سنة 1999 وقع الكونسورتيوم اتفاقية لتطوير حقل "غزة مارين" لمدة 25 عاماً.[2]
أدت الاكتشافات السيزمية للكونسورتيوم إلى تحديد "غزة مارين" في حوض "ليفانت" البحري على بعد 35 كلم من ساحل غزة. وتم حفر بئر "غزة مارين " في أيلول (سبتمبر) 2000 على عمق 603 أمتار تحت سطح الماء. ودلت التجارب الأولية على القدرة الإنتاجية لبئر "غزة مارين-1" بنحو 37 مليون قدم مكعب يومياً. ثم تم حفر بئر "غزة مارين-2" الذي يقع على بعد 5 كلم جنوب –غرب "غزة مارين-1" على عمق 535 متراً تحت سطح الماء بمحاذاة الحدود البحرية الفلسطينية (قطاع غزة) -الإسرائيلية وبجوار حقل "ماري-ب". وقدرت احتياطات "غزة مارين بنحو 1.4 ترليون قدم مكعب. يُشار إلى أنه يطلق على حقل "غزة مارين 2" أيضاً اسم الحقل الحدودي.[3]
في 28 أيلول (سبتمبر) 2000 أعطى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إشارة البدء في أعمال حفر أول بئر فلسطينية لإنتاج الغاز قبالة شواطيء غزة، وفي حينها استقل "أبوعمار" قارباً بحرياً مزيناً بالأعلام الفلسطينية وأبحر نحو موقع التنقيب بصحبة هيو ميللر، رئيس شركة "بريتش غاز". وبعد مرور نحو ربع قرن لم يُستخرج أي غاز من الحقل، وهو ما حرم الشعب الفلسطيني استغلال ثروته البترولية طوال هذه الفترة. ويرجع السبب في التأخير إلى عراقيل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وتعطيلها جميع خطط تطوير الحقل، ناهيك عن المطامع الاقتصادية.[4]
حاولت إسرائيل الحصول على الغاز الفلسطيني بأسعار أقل من أسعار السوق، وطالبت بإعطاء فرصة لشركة بترولية إسرائيلية للاستفادة من توفر الإمدادات بأسعار تفضيلية. وتأسس بالفعل كونسورتيوم "يام ثيتاس" للحصول على حصة من الغاز، ادعت إسرائيل أنها "فائض الغاز" المتدفق إلى غزة، وطبعاً، لم يتم تعريف "فائض الغاز" هذا، وحجمه. وقد حاول الكونسورتيوم المؤلف من عدة شركات بترولية إسرائيلية الحصول على رخصة تزويد الوقود لمحطة كهرباء غزة وعلى "فائض الغاز" وساندته الحكومة في ذلك. لكن هذه المحاولات فشلت بسبب عدم تطوير الحقل، وعدم موافقة الكونسورتيوم بقيادة "بريتش غاز" على ذلك.
فازت حركة "حماس" بالانتخابات التشريعية في سنة 2006، وفي أثر هذا الفوز فرضت إسرائيل في سنة 2007 حصاراً بحرياً على القطاع، كما منعت أي فرصة مستقبلية للنقل البحري عبر مياه غزة، بالإضافة إلى رفض تطوير حقل "غزة مارين".
إمكان تطوير حقل "غزة مارين" في المستقبل المنظور
من المتوقع، مع النكبة التي لحقت بقطاع غزة وتشتيت أهله وتدمير ما هو متوفر من مساكن وبنى تحتية، أن يحتاج الموعد الذي كان محدداً لتطوير حقل "غزة مارين" على مدى 30 شهراً لبدء الإنتاج، إلى فترة أطول بكثير، وذلك إلى حين التوصل إلى تفاهمات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في إسرائيل، وبين الدول الكبرى والإقليمية بشأن إمكان إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وبين الحركات الفلسطينية نفسها لتقرير المستقبل السياسي الفلسطيني، وبدء إعادة إعمار القطاع.
من الصعب التوصل إلى التفاهمات بسهولة أو بسرعة؛ فالاتفاقات في هذه المجالات صعبة وتتطلب فترة طويلة من المباحثات، وذلك لتعدد الأطراف ذات العلاقة، والخلافات بين الجهات المتعددة وتضارب مصالحها. كما أنه من الصعب أيضاً تصور تحمل شركة نفطية مسؤولية تطوير حقل بحري من دون توفر سياسات وأساسات واضحة لما يشكله هذا من مخاطر وخسائر.
لعل أولى القرارات الواجب اتخاذها تتمثل في رفع الحظر البحري الذي فرضته إسرائيل على ميناء غزة؛ ثانياً، ضرورة اتخاذ قرارات حكومية إسرائيلية واضحة وعلنية لتسهيل تطوير الحقل من دون المس بمصالح الفلسطينيين وحقوقهم في استثمار ثروتهم البترولية؛ ثالثاً، الاتفاق بين السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" بشأن صلاحيات كل منهما في عملية إنتاج الغاز وتسويقه، وكيفية توزيع الريع الغازي.
من الطبيعي حالياً، وعلى ضوء معركة غزة التي حققت تغيراً جوهرياً في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومقاومة الحركات الفلسطينية، الانتظار عدة أشهر لمعرفة الآثار السياسية للتغير الكبير في وجهات نظر الرأي العام العالمي بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني، المتمثلة في عمليات القتل الجماعي للمدنيين والحرب على المستشفيات. وهي جميعها انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان يشاهدها ملايين من سكان المعمورة على شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي.
حقل "ماري-ب"
يُعتبر حقل "ماري ب" من أوائل الحقول البحرية الإسرائيلية، ومن أهم الحقول التي زودت سوق الطاقة الإسرائيلية بالغاز في حينه، على الرغم من احتياطيه الضئيل. وقد أدى الإنتاج المكثف نسبياً إلى سرعة نضوب الحقل، الذي بدأ في الفترة نفسها التي اكتشفت فيها شركة "نوبل" الأميركية الحقول الضخمة (ليفانت وتامار) في المياه الإسرائيلية الشمالية. وبحسب التقرير السنوي الذي نشرته إدارة معلومات الطاقة الأميركية، فإن حقل "ماري ب" الذي كان في سنة 2013 يؤمن نحو 40% من حاجة السوق الإسرائيلية، "دخل المراحل الأخيرة لنضوبه."[5]
الأمر الذي يثير التساؤل بشأن مدى كمية الإمدادات التي سيزودها مستقبلاً حقل "ماري-ب" في حال اعتباره حقلاً مشتركاً مع حقل "غزة مارين-2"، بالذات من خلال تسييل الغاز في مصر وتصديره إلى أوروبا.
يُعتبر احتياطي الغاز المحدود في بحر غزة من الأحجام الصغيرة نسبياً للتصدير إلى الأسواق الكبيرة. كما أن ما يعقد الأمور أيضاً هو حقيقة وجود حقلين: "غزة مارين-1" و"غزة مارين-2" (الحقل الحدودي).
يذكر الدكتور محمد مصطفى، نائب رئيس الحكومة الفلسطينية سابقاً، ورئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني، في محاضرة ألقاها في ندوة نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في بيروت، أن "الدراسات تشير إلى أن حقل "غزة مارين" يمكنه إنتاج الغاز بمعدل 1.5 مليار متر مكعب سنوياً على مدى عمر الحقل المقدر بعشرين عاماً."[6]
إسرائيل تعرقل تطوير حقل "غزة مارين"
فرضت إسرائيل عراقيل جمة بهدف وقف تطوير حقل "غزة مارين" ومحاولة بدء الإنتاج منه، مثلاً:
الإصرار على مراقبة الإنتاج، لمحاولة تحديد الريع الغازي في المحفظة المالية التي تسيطر وتشرف عليها، وذلك لاستمرار الرقابة على الموارد المالية الفلسطينية، كما هي الحال الآن في محفظة الضرائب والجمارك، لكن من خلال محفظة خاصة للريع الغازي، وذلك لمعرفة إيرادات الخزينة الفلسطينية، وطريقة إنفاق الأموال، وحجب الأموال عن السلطة الفلسطينية، وهو ما تفعله باستمرار.
وهناك محاولة لبث التفرقة والانشقاق بين الفصائل الفلسطينية للتحريض فيما بينها، ومحاولة تأجيل حق الشعب في غزة في تطوير الثروة البترولية في أرضه لمصلحة الشعب الفلسطيني. وأخيراً، محاولة وضع اليد على جزء من الإنتاج الغازي الفلسطيني لمصلحة إسرائيل وشركاتها البترولية.
تبنت إسرائيل حججاً "أمنية" متعددة لتمنع تطوير حقل "غزة مارين"؛ اذ اعتبرت أن الأمر سيعني خرقاً للحصار البحري الذي تفرضه على القطاع، كما حاولت باستمرار ومن دون انقطاع ممارسة الرقابة على الأموال المخصصة للسلطة الفلسطينية وحركات المقاومة.
اعتبرت إسرائيل أن تطوير حقل "غزة مارين" سيعني تدفق الأموال لحركة "حماس"، ومن ثم "الإرهاب" بحسب ادعائها. هذا بينما كانت دولة قطر تحوّل الأموال علناً إلى حركة "حماس" عبر إسرائيل نفسها، وبموافقة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي حاول استغلال هذه الفرصة لتوسيع الهوة بين حركتي "حماس" و"فتح"، من خلال دعم الأولى على حساب الثانية.
واجبات سلطة الاحتلال تجاه المصادر الطبيعية في الأراضي المحتلة
شرح أستاذ القانون الدولي أنيس فوزي قاسم، في محاضرة له في ندوة نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت،[7] كيفية معالجة القانون الدولي العرفي واجبات سلطة الاحتلال فيما يتعلق بالأملاك التي تقع تحت سيطرته في الأراضي التي يحتلها ويقيم عليها سلطته الفعلية، وميز بين نوعين من الأملاك: الأملاك الخاصة والأملاك العامة. بالنسبة إلى الأولى، فقد ورد النص صراحة في المادة 46 من مدونة لاهاي، كما يلي: "ينبغي لسلطة الاحتلال احترام شرف الأسرة وحقوقها، وحياة الأشخاص والملكية الخاصة...لا تجوز مصادرة الملكية الخاصة".
يضيف الدكتور أنيس قاسم:
إن "الحماية المقررة للملكية الخاصة هي أحد الواجبات الرئيسية التي فرضها القانون الدولي على سلطة الاحتلال للحيلولة دون إفقار الشعب الواقع تحت الاحتلال، ولتمكينه من مواصلة حياته الطبيعية إلى أبعد حد ممكن، وبالتالي وضع القانون لهذه القاعدة الأساسية استثناء واحداً وهو أن تكون السيطرة على هذه الأملاك تقتضيها الضرورة العسكرية فقط. وأضاف إلى ذلك شرطاً فحواه أنه إذا اضطرت سلطة الاحتلال إلى السيطرة على الأملاك الخاصة لخدمة المجهود الحربي فيجب عليها دفع التعويضات، وذلك بحسب المادة 53، الفقرة الثانية، من مدونة لاهاي.
"أمّا بالنسبة إلى الأملاك العامة، فقد ميز القانون الدولي بين ما إذا كانت منقولة، أو غير منقولة، وجاء هذا التعبير ضمناً، إذ نصت المادة 53، الفقرة الأولى، من مدونة لآهاي على أنه: "لا يجوز لقوات الاحتلال أن تستولي إلاّ على الممتلكات النقدية والأموال والقيم المستحقة التي تكون في حوزة الدولة بصورة فعلية، ومخازن الأسلحة ووسائل النقل والمستودعات والمؤن والممتلكات المنقولة للدولة بشكل عام والتي يمكن أن تُستخدم في العمليات العسكرية.
"أمّا بالنسبة إلى الأموال العامة غير المنقولة فقد أدرجت قواعدها الصارمة المادة 55 من مدونة لاهاي، إذ نصت على ما يلي: لا تعتبر دولة الاحتلال نفسها سوى مسؤول إداري ومنتفع من المؤسسات والمباني العمومية والغابات والأراضي الزراعية التي تملكها الدولة المعادية والتي توجد في البلد الواقع تحت الاحتلال وينبغي عليها صيانة باطن هذه الممتلكات وإدارتها وفقاً لقواعد الانتفاع."
يشرح الدكتور قاسم هذه القوانين، وبالتحديد فيما يتعلق بالسوابق القانونية لاستغلال احتياطات الحقول النفطية، كالآتي: "النص واضح بالنسبة إلى الوضع القانوني لسلطة الاحتلال، وهو أنها مجرد مسؤول إداري ومنتفع ليس إلاّ....من جهة أُخرى، يسمح النص لسلطة الاحتلال بإدارة الأموال غير المنقولة لمجرد الانتفاع، من دون أن يكون لها سلطة الاستيلاء عليها أو تملكها. والأمثلة التي وردت في النص لا تشمل جميع الأموال غير المنقولة التي تملكها الدولة، اذ يصعب حصر هذه الأموال التي تشمل، على سبيل المثال، المصادر الطبيعية سواء أكانت معروفة وقت وقوع الاحتلال، أم تم اكتشافها بعد ذلك."
ويستشهد الدكتور قاسم بسوابق قانونية ذات صلة بتصرفات قوى الاحتلال بالثروة النفطية في أثناء الحروب: "جاء حكم محكمة استئناف سنغافورة الصادر في سنة 1956 شارحاً هذا الأمر. وتتلخص وقائع هذه القضية التي شكلت سابقة قضائية في هذا الشأن خارج محاكمات نورنبرغ وجاءت مؤيدة لها، في أن قوات الاحتلال اليابانية استولت في أثناء الحرب العالمية الثانيةعلى مخزون نفطي تملكه شركات هولندية في جزر الأنديز الشرقية القريبة من سنغافورة، لذا طالبت هذه الشركات بالتعويض من القوات اليابانية، لكن طلبها رُفض، فأستأنفت القرار. وقد عالجت محمكة الاستئناف موضوع الاستيلاء على مخزون النفط، سواء ما كان منه قد تم تكريره وتجهيزه للاستعمال، أو ما ظل في باطن الأرض ولم يتم استخراجه بعد، وذلك كله في ظل أحكام المادة 53/1 من مدونة لاهاي. فقد ثبت للمحكمة أن قوات الاحتلال الياباني استولت على المخزون النفطي المستخرج لا لأغراض جيش الاحتلال فحسب، بل أيضاً لأغراض مدنية داخل اليابان وخارجها. وخلصت في ضوء تلك الوقائع إلى أن استغلال المصادر الطبيعية في الأراضي المحتلة "من دون اعتبار للاقتصاد الداخلي هو نهب، وهو بالتالي مخالف لقواعد الحرب وأعرافها. ووجدت المحكمة تأييداً لقرارها في ثلاث سوابق قضائية صدرت في سنتي 1947 و1948 عن محمة نورنبرغ، التي لاحظت أن سلوك بعض الصناعيين الألمان الذين قاموا بنهب اقتصادات الأراضي المحتلة من أصحاب تلك المصالح وضد رغباتهم، هو سلوك مخالف لعادات الحرب وقوانينها"....
"ثم انتقلت المحكمة إلى النظر في طلب المستأنفين الآخر وهو هل المخزون النفطي في باطن الأرض يمكن مصادرته واعتباره مالاً منقولاً في مفهوم المادة 53 من مدونة لاهاي؟ وقد أجابت بالنفي، ذلك بأن النفط الذي لا يزال في باطن الأرض يعتبر جزءاً منها، أي أنه يعامل على أنه مال غير منقول، وبالتالي لا يمكن استخدامه في المجهود الحربي والتعامل معه على أنه من الأموال المنقولة مثل "مخازن الأسلحة، التي يجوز الاستيلاء عليها. ....وقد لاقت النتيجة التي توصلت إليها محكمة سنغافورة تأييد العديد من فقهاء القانون."
المصادر الطبيعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة
يطرح الدكتور قاسم السؤال التالي: هل تتصرف إسرائيل طبقاً لمعايير القانون الدولي، على أساس، أن الأراضي الفلسطينية هي أراضٍ محتلة، وأن إسرائيل هي السلطة القائمة بالاحتلال طبقاً لمعايير القانون الدولي الإنساني، من ثم، فإن المبادىء الواردة في مدونة لاهاي بشأن حق الانتفاع من المصادر الطبيعية في الأراضي المحتلة تنطبق على الوضع الفلسطيني؟
أجاب الدكتور قاسم: "على الرغم من التمسك بالقانون العرفي والاتفاقي كما عبرت عنه مواثيق لاهاي وجنيف، وبالفقه الدولي كما عبرت عنه المحاكم الدولية، فإن العلاقة بين سلطة الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها ممثلة الشعب الفلسطيني، شهدت تطورات قانونية يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار، أهمها، الاعتراف المتبادل بين الطرفين، والاتفاق المرحلي الخاص بـ 'غزة-أريحا' الموقع بتاريخ 4/5/1994، والمعروف بأسم 'أوسلو1'، والاتفاق الخاص بالضفة الغربية وقطاع غزة الموقع في طابا بتاريخ 24/9/1995، والذي وقع ثانية في واشنطن بتاريخ 28/9/1995 وسمي 'أوسلو2'. وما يهمنا في هذا الاتفاق الأخير هو الملحق الثالث الخاص بالشؤون المدنية، والذي تضمن نصوصاً لها علاقة ببعض المصادر الطبيعية، والتي من المهم عرضها على نحو موجز لبيان السياق الذي تتعامل من خلاله سلطة الاحتلال مع هذه المصادر، ومدى انسجامها مع معايير القانون الدولي الإنساني. ولا مجال في أن المصدر الأهم هو الأرض..."
مصادر الطاقة
حدد اتفاق أوسلو2 المسائل الخاصة بالنفط والغاز، سواء على صعيد التنقيب والإنتاج في المنطقة "ج"، أو على صعيد مراكز التوزيع والنقل. فقد نصت المادة 15 من المرفق الأول في الملحق الثالث، وفي المادة 1/منها، على أنه في المنطقة "ج" سوف "تنقل الصلاحيات والمسؤوليات المتعلقة باكتشاف وإنتاج النفط بالتدريج إلى الولاية الفلسطينية التي ستغطي منطقة "الضفة الغربية وقطاع غزة...."، ونصت المادة 4/أعلى أن يقوم الجانب الفلسطيني بتبليغ نظيره الفلسطيني بأي اكتشاف وإنتاج للنفط والغاز يقوم بهما، أو أي جهة أُخرى بموافقته، وتنص المادة 4/ب على التعاون بين الطرفين "فيما يختص بإنتاج النفط والغاز في حالات وجود بنية جيولوجية مشتركة."
[1] China.org.en
[2] Consolidated Construction Company (CCC). “Overview CC Energy”, 2/4/2024.
[3] صالح جلاد، "سياسات إسرائيل إزاء الموارد الهيدروكربونية لفلسطين"، في: "آفاق بترول شرق المتوسط"، تحرير وليد خدوري (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2017)، ص 71-77.
[4] ميرفت عون. "تطوير حقول غزة النفطية .. هل اقترب الحلم المؤجل منذ 20 عاماً على التحقيق"، 11/6/2023.
[5] US Energy Information Administration (EIA) “East Mediterranean Region”. August 15, 2013.
[6] محمد مصطفى، "البترول والغاز الطبيعي في فلسطين: الإمكانات والمعوقات"، في: "بترول شرق المتوسط"، تحرير وليد خدوري (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2015)، ص 39 – 48.
[7] أنيس فوزي قاسم، "موقف القانون الدولي من سلوك سلطة الاحتلال"، في: "الطاقة والجغرافيا السياسية لغاز شرق المتوسط"، تحرير وليد خدوري (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2019)، ص 91 –132.
1