كلمة الدكتورة عايدة خداج ابي فراج
كلمة الدكتورة عايدة خداج ابي فراج
فرح
ناشطة اجتماعية ، تعمل بلا كلل في سبيل تحسين أوضاع الناس في هذه الأيام الصعبة ، مناضلة بالموقف وبالكلمة في الدفاع عن قضايا المرأة اللبنانية وتمكينها من اخذ الدور الذي تستحقّه في مختلف المجلات السياسية والحقوقية والعملانية ، اديبة مبدعة ، ومجددة ، مترجمة امينة ، مؤلفة منتجة وقارئة نقدية دقيقة للاصدارات الفكريّة وبهذه الصفة ستتناول الإضاءة على كتاب الأستاذ عباس خلف - ملح الأرض. الدكتورة عائدة خداج تفضلي الكلمة لك.
ايها الاخوة والأخوات ، أسعدتم اوقاتاً ،واهلاً وسهلاً بكم في الصرح العريق، الذي يستضيف هذا اللقاء العابق بفكر ونضال الاستاذ عباس خلف، هذه القامة الوطنية التي سمت لتلامس مثالات المعلم الشهيد كمال جنبلاط ، فاستمطرت القيم أخلاقاً والتزاماً ووفاءً ، واكتنزت من معرفة ، واختمرت نضالاً على امتداد سحابة العمر .
اليوم ، نتحلق كعنقود نحل حول مائدة الفكر ، ومضيفنا كتاب الاستاذ خلف بعنوان "ملح الارض: مسيرة التزام ونضال ووفاء". و"ملح الارض" ، هو الاسم الذي كان يذيل به مقالاته الناطقة بإسم الحزب التقدمي الاشتراكي منذ العام 1960.
تنقلنا التسمية الى "خطبة الجبل" للسيد المسيح ، الذي خاطب تلاميذه ، بعد تلاوة الطوبيات التسع ، بالقول : انتم ملح الارض ، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح؟" فطوبى لك عباس خلف ، أن تكون حفنة من ملح هذه الارض التي لم تفسد يوماً ، ولن تفسد ابداً . وهنيئاً لك ان تكون من تلامذة المعلم كمال جنبلاط الذي قدّم حياته قرباناً على مذبح الوطن ، وشبهه الكثيرون بالناصري ، وان تكون من النخبة الاخلاقية الحكيمة التي رفعها المعلم الى مصاف الرسل الأبرار كي تقود مسيرة النضال والعدل بين الناس.
يحتضن الكتاب بين ضفتيه فصولاً خمسة ، تروي سيرة الاستاذ عباس الحزبية ، والفكرية ، والنضالية ، والمهنية .
وما يلفت قارىء الكتاب ، غياب السيرة الشخصية للكاتب . فكأني بحياة الاستاذ خلف قد بدأت يوم انطلق ذاك الشاب من بوابة الجامعة الاميركية في بيروت الى فسحة النور ، حاملاً طلب انتسابه الى الحزب التقدمي الاتشراكي ، ليلتحق بكنف المعلم الذي شكل مشكاة نور لجيل كامل من الشباب الذين سلكوا طريق النضال من اجل المساواة ، والحرية ، والعدالة ، والديمقراطية ، والعلمانية ، من اجل الإصلاح ومحاربة الفساد والمفسدين.
فمنذ العام 1953 حتى الساعة ، اي خلال سبعين عاماً عداً ونقداً ، كان الاستاذ عباس خلف منخطفاً بشخص كمال جنبلاط ، كانخطاف المؤمن بقديسه ، فكانت مراحل حياته النضالية ، تترابط وتتماسك بروح المعلم ، وبفكره ، وثوابته ، ومثالاته التي تؤطر الحوافي المذهبة من حياته.
لقد لازم الاستاذ خلف المعلم كظله ، فكان الرفيق ، والصديق على امتداد ربع قرن من الزمن ، وكان له القدوة والمثال ، وتماثل به حتى التماهي . ولما جئت أصف هذه العلاقة ، حضرني بيتان من الشعر للشاعر الصديق في السهر وردي حين وصف علاقته بالخالق ، قائلاً :
رقَّ الزجاج وراقت الخمرُ ،
وتشابها ، فتشاكلَ الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قدحُ ،
وكأنما قدحٌ ولا خمرُ .
هكذا كانت علاقة الاستاذ خلف بالمعلم ، التماثل حى التماهي . وهذه العلاقة هي ما سيضيء عليها الاستاذ يقظان التقي.
منذ العام 1958، شكلت الكتابة الصحافية بالنسبة اليه فعل التزام ، فامتشق قلمه ، وبدأ الكتابة في جريدة الأنباء ، مجاهراً بآرائه المستوحاة من مبادىء المعلم ، وخمائر فكره ، في وجه من حاولوا تكميم كلمة الحق. فردف الثقافة الوطنية بثورة دائمة ، تتنافى والوثنية الفكرية والعصبيات والاصوليات الهدامة والطوائفية والتمذهب ، مناهضا الإيديولوجيات الشوفينية ، منادياً بحق الجميع بالمساواة ، والحرية من اجل خلق المواطن الحر والشعب السعيد.
فتح خلف نوافذ العقل على كافة المذاهب الفكرية ، والعقائدية ، وآمن بالحوارمع الآخر ، فشكلت كتاباته ومواقفه نموذجاً حياً للمثقف والمناضل الذي "يقدم حياته مرآة لفكره"، حسب تعبير الكبير عمر فاخوري وتنوعت كتاباته لتطال كافة الاحداث على امتداد رقعة العالم ، ولاحق اخبار الثورات وحركات التحرر ، والحراكات الشعبية المطلبية ، حاملاً لواء العروبة ، والتقدمية الاشتراكية في مواجهة الاستعمار ، والصهيونية ، فاحتلت فلسطين واسطة العقد في كتاباته ، تماماً كما احتلت مساحة القلب عند المعلم الذي حملها في العينين ، مدافعاً عنها حتى الشهادة.
وشكل المعلم ،الحاضر الدائم في كتاباته ، المرجع والاستاد، فعكس صورته في مراياه كواحد من أبرز وأشرف القادة الوطنيين ، ووصفه قائلاً :
"كمال جنبلاط هذا المتمرد على الاقطاع ، والطامح الى بناء دولة ديمقراطية يتساوى فيها الكل دون تمييز ، هذا القائد الشعبي الذي رفع السياسة من أوحال الفساد والمحسوبية والاستزلام ، الى مستوى الشرف والنزاهة والأخلاق . ويضيف قائلاً : ان العلم زواج بين نقيضين : بين النظام والحرية ، بين الاخلاق والقانون ، بين العمل والتأمل ، بين المادية والتجريد ، بين الشرق والغرب ، وبين القديم والحديث ، من اجل بناء مدنية عالمية جديدة."
ومن يتبحر في كتابات الاستاذ خلف ، يجد أن قيمة الوحدة هي الخيط الذهبي الذي يربط مفاصل الكتاب. دعا الاستاذ خلف اللبنانيين الى الوحدة "لأن الوطن الذي لا يحيمه ابناؤه ، يباح استقلاله ، وتسهيل تفرقة ابنائه وتجزئة أراضيه". ورفض مقولة " أن قوة لبنان بضعفه" مؤكداً أن قوته تكمن في وحدة ابنائه وفي قيام لبنان جديد : علماني ، تعددي ، تقدمي ، ديمقراطي ، متحرر من اي ارتباط خارجي ، يحارب الفساد ، ويناهض الرجعية المتحجرة ، ولا يسيطر عليه سوى حكم القانون ". وأنه لا يمكن فصل لبنان عن العالم العربي لأنه جزء لا يتجزأ من جغرافيته وتاريخه.
ونادى خلف ايضاً بوحدة عربية لا عصبية فيها ولا إستئثار ، تقوم على اسس علمية، اهمها الوحدة الاقتصادية ، والسوق العربية المشتركة ، وقيام فدرالية او كونفدرالية مبنية على اسس ديمقراطية".
ويضيف قائلاً ، إن فلسطين الجريحة لا يندمل جرحها الا بوحدة الاقطار العربية ، والتصدي للمشاريع الإسرائيلية ، الجهنمية ، مستشهداً بقول المعلم :
" إن الرد على المحن العربية التي واجهتنا منذ قيام اسرائيل، هو إقامة وحدة عربية، واعادة الوصل بين ما قسمته ومزقته الايدي المستعمرة والمنتدبة واسرائيل..." ويختم بالقول : "الوحدة ، ثم الوحدة ، وأبداً الوحدة".
فكم نحن اليوم بحاجة الى هذه الوحدة في وجه النيوكولونيالية التي تحاول تفتيت ، وتمزيق ، وتدمير العالم العربي ، وفرض التطبيع ، والفرز والضم القائم على قدم وساق.
وتبقى يتمة الوحدة هاجس الاستاذ خلف ، فدعا الى وحدة النقابات العمالية في العديد من مقالاته ، لمواجهة الاحتكار والفساد ، وحذّر من الاصطفافات السياسية والحزبية، لأنهم باستسلامهم لمشيئة السياسيين وقبولهم بدور الخانع والتابع ، انما يقضون على مستقبل الحركة العمالية والنقابية في لبنان.
وشغلت الحركة الشبابية والربيع العربي حيزاً واسعاً من كتابات الاستاذ عباس ، معتبراً ان الوحدة الشبابية هي جسر عبور الى وطن المساواة والتحرر. ودعا الى قيام حركة شعبية شبابية ، شعارها "الخبز والحرية"، والاخلاق ، عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات ، مذكراً الشباب بالحركة التغييرية التي قادها كمال جنبلاط ، والتي كانت ثورة ضمير وأخلاق ، رفضت المساومة ، وانتصرت لأنها جمعت بين مبدأ الحرية والوعي ".
ويرسم الاستاذ خلف خارطة طريق للحراك الشبابي تقوم على دعم حقوق الانسان ، والمساواة بين الرجل والمراة ، واستنكار العنف الأسري ، والمطالبة بمدنية الدولة في الأحوال الشخصية ، والزواج المدني الاختياري ، وقيام نظام مدني علماني ، تقدمي ، ديمقراطي يساوي بين الناس على قاعدة المواطنة والإنسانية .
هذه كانت بعض النتف المختارة من كتابات ومقالات الاستاذ خلف التي لم نعطها حقها نظراً لضيق الوقت .
اما الحلقة الثانية في مسيرة الاستاذ خلف النضالية ، هو اختياره وزيراً للاقتصاد والتجارة عام 1974 ببيانه الوزاري نسخة مجددة عن نهج المعلم وعد أنه "سيسعى الى تحقيق مطالب الناس المعيشية ، والعمل على محاربة الاحتكار والغلاء والفساد ، واعادة النظر بالأنظمة الضريبية ، واقفال باب الارتزاق والرشوة ،وتنظيم الادارة وتفعيلها ، وتحسين وتفعيل إداء الموظفين".
اما الحلقة الثالثة في مسيرته النضالية ، فهي تأسيسه وكوكبة من المناضلين الأوفياء "رابطة أصدقاء كمال جنبلاط" عام 2010 ، التي أخذت على عاتقها نشر فكر وتراث المعلم بين الشباب ، داخل الوطن وخارجه .
وسيتناول الاستاذ سعيد الغز الكلام عن هاتين المرحلتين .
اما الحلقة الرابعة التي يضيء عليها الاستاذ خلف في كتابه ، فهي تأسيسه "للتجمع الوطني لسلامة المواطن" عام 2021، وهو عبارة عن تحرك مدني من اجل انقاذ المواطن من الفساد والاستهتار بصحته وحياته في ظل الغياب الكامل للدولة.
وقد شدد هذا التجمع على مشكلة الدواء ، وتلوث المياه والماء ومكافحة الاعلان الخادع من اجل حماية المستهلك .
ونصل الآن الى الحلقة الخامسة والاخيرة من مسيرة الاستاذ خلف النضالية والمشرفة ، وهي مسيرته المهنية كرئيس لشركة "اميركان لايف انشورنس في الشرق الاوسط ، وافريقيا وجنوب آسيا" وهي واحدة من اهم شركات التأمين في العالم . شكلت مسيرته المهنية مرآة لفكره . فكان يقيس كل أمر يقوم به بمقياس قيم النزاهة ، والاستقامة ، والوفاء ، الى الشجاعة والثبات على المبدأ ، واحترام حقوق الناس ومصالحهم ، وانصاف الموظفين . وعلى امتداد سبعة واربعين عاماً ، رفع شعار : "الالتزام شرف ، والقيادة فنّ ، والصداقة وفاء". واستطاع ان يخلق بيئة مهنية سليمة ، وان يسهم في تطور الشركة وامتداد رقعة انتشارها، نظراً لكفاءته الإدارية والاخلاقية والمهنية ، وخلق طاقم من الموظفين الاكفاء الذي شكل لهم القدوة والمثال. وقد عبّر عن تجربته المهنية بالقول :
"اعتبر ان احد اسرار نجاحي المهني ، هو تطبيقي لمبادئي ومناقبيتي الحزبية ، واعتمادي شعار التنظيم والنظام في العمل ".وساكتفي برسالة تقدير من ادارة الشركة يوم تقاعده ، ترجمتها عن الانكليزية ، وجاء فيها :
"تحية إكبار لمدير "الشركة الاميركية للتأمين" ، في الشرق الاوسط وافريقيا وجنوب آسيا الاستاذ عباس خلف ، الى المبتكر الذي تعدى آفاق الخلق والإبداع ، الى الرؤيوي الذي نتوق جميعاً للاقتداء به ، الى المعلم الذي أنشأ وعلّم الأجيال تلو الاخرى ، الى الأب والصديق الذي سنعتمد عليه دوماً وابداً ."
هذا كان غيض من فيض ، استطعنا ان نضيء عليه من انجازات ومآثر الاستاذ خلف ، الذي يذكرنا بقول للسيد المسيح ، كان يردده المعلم على مسامع الرفاق: "إن لم تمت حبة الحنطة ، تبقى وحدها ، وان ماتت ، اتت بثمر كثير".
فكأن المعلم كان يعلم ان موت حبة الحنطة ليس بالبعيد ولكنها بموتها اتت بالثمر الكثير ، بأغمار من الحنطة، التي عمل الاستاذ خلف على بذرها من جديد مع كوكبة من المناضلين النخبويين ، وعلى غرار رسل الناصري وصحابة الرسول ، والذين آمنوا كما آمن الاستاذ خلف.
"ان كمال جنبلاط رسالة لم تنتهِ، وعطش الى الحق والخير والعدالة لم يرتوِ ، وايمان بالانسان المطلق ، وبالوحدة الشاملة المغمورة بالمحبة، وهي تجلي روح الله في هذا الكون ".