نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 73

الثلاثاء 02 أيار 2023

إشكالية العلمنة وجدوى الاستخدام و تعقيب من الرابطة حول العلمانية كما طالب بها كمال جنبلاط ووردت في الصفحة 59 – 60 من كتاب "كمال جنبلاط قيادة تاريخية ورؤية مستقبلية"

دراسة سياسية

فهد سليمان الشقيران

قبل أيام، أعيد طرح معنى «العلمانية الجزئية»، وهو معنى طرحه عبد الوهاب المسيري بإزاء «العلمانية الشاملة»، وهو طرح منقوص، وقد كتب ضده الصديق حمد الراشد كتاباً كاملاً بعنوان «دفاع عن العلمانية ضد المسيري»، وهو في غاية المحاججة العلمية الرصينة.

لقد شكّل استصحاب إرث مفهوم العلمانية في القرون التالية للحروب الأهلية الأوروبية، عائقاً أمام فهم البعض لجدوى الاستخدام، وآية ذلك أن إلصاق تاريخ المسيحية بالمفهوم استعمل على المستويين «الآيديولوجي الأصولي» و«الأكاديمي الفكري»، وكل ذلك يعبر عن قراءة مدرسية للمفهوم، بعيداً عن التطوّر الذي شهده من خلال تعدد التطبيقات للمفهوم عبر نماذج دول كثيرة بالشرق والغرب.

يستظهر البعض جملة: «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وذلك من أجل وضع العلمنة بإزاء الدين بما يشبه «النقض»، وهذا يعزز من حجج التيارات الرجعية المناوئة للدولة المتجددة الطامحة لاستخدام أنجح المفاهيم وأقدرها على ضبط التفاوت الاجتماعي والصراعات الطائفية والاختلافات العرقية، ولولا العلمانية لكانت المجازر والدماء تملأ هذا العالم.

من بين من وقع في فخ مرادفة «العلمانية» بـ«الدين»، مفكر مرموق مثل محمد عابد الجابري، وذلك في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، وقد ناقش طرحه هذا جورج طرابيشي في كتابه: «هرطقات»، وقد شنّ طرابيشي هجوماً مبرراً على طرح الجابري الذي يمكن التذكير به؛ فهو يطرح «الديمقراطية» بديلاً عن «العلمانية»، ويشرح رأيه قائلاً: «في رأيي أن من الواجب استبعاد شعار (العلمانية) من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي... إن مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة؛ بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات»، ثم يضيف تعبيراً عجيباً عن «العقلانية السياسية»؛ إذ يقول: «الديمقراطية تعني حفظ الحقوق؛ حقوق الأفراد، وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج».

ما ذكره الجابري عن وظيفة «العقلانية السياسية» هو ذاته وظيفة «العلمانية»، لكنه يهرب منها؛ لسببين اثنين، الأول: إقناع المجتمعات بالعقلانية السياسية (التي تقوم بوظيفة العلمانية نفسها)، لتحرير المعنى من الإرث الديني المعادي للقيم التي تنتجها العلمانية، والذهاب إلى مصطلح آخر يُطمئن جموع المسلمين بأن العلمانية لا ضرورة لها، وإنما الأولوية للعقلانية، وذلك انطلاقاً من اعتقاد الجابري بأن العلمانية في المجتمعات العربية مَن نشرها هم «مسيحيو الشام»، وبالتالي لا حاجة للمسلمين بمفهوم يروِّج له المثقفون المسيحيون. السبب الثاني: يلخّصه بقوله: «عبارة (فصل الدين عن الدولة) عبارة غير مستساغة إطلاقاً في مجتمع إسلامي؛ لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة». وهنا يشترك الجابري مع الاعتراض الراديكالي على مفهوم العلمنة، ويأخذ الفهم السطحي للعلمانية باعتباره القول النهائي. يخشى الجابري من «فصل الدين عن الدولة» لاعتباره مما يخدش المفهوم السياسي الإسلامي وأدوات «تطبيق الشريعة».

لكن الفهم الذي اعتمده الجابري من أجل نقض مفهوم العلمانية، في غاية النقص؛ إذ تطوّرت استعمالات المفهوم، وتحرَّر تدريجياً من الإرث المسيحي الديني، ولم يعد مجرد «فصل» سطحي بين الدين والدولة، بل تشكّلت العلمانية بوجوه جديدة ومتعددة مع نمو وتطوّر النظريات الفلسفية السياسية المتجاوزة لكلاسيكيات العقد الاجتماعي (من روسو إلى كانط)، وبالتحديد مع النقلة الكبرى التي ساهم بها جون راولز في أبحاثه عن العدالة المنصفة، التي تُعدّ زلزالاً في مفهوم العقد الاجتماعي، وتطويراً لتصوّرات وظيفة الدولة، وتُعدّ من أفصح النظريات الواقعية التي تحاول إيجاد الميزان السياسي (البعد الأخلاقي ليس جوهرياً) لضبط حالات التفاوت وتحديد مفهوم الإنصاف بين الفرد والدولة والآخر، لكن الأستاذ الجابري أخذ العلمانية كما يفهمها الناس، ثم نقض ما يفهمه الناس عنها.

إن الحشو الآيديولوجي للمفهوم اجتاح حتى بعض المفكرين، متناسين أن العلمانية مفهوم حي يكبر مثل الناس، ويتطوّر وتتعدد استخداماته وتتنوع تطبيقاته، وأثبتت تجارب كبرى أن علمنة الدولة لم تقضِ على الأسس الثقافية ولم تعادِ الدين؛ بل إن انتعاش الأديان لا يكون إلا من خلال العلمانية، وذلك لأمرين اثنين؛ أولهما: أن العلمانية تؤسس للتضابط بين مجموع الأديان، بحيث يتم إنصاف الديانات وأتباعها ضمن القوانين المتبَعة، كما هي الحال في العلمانية الهندية بكل التعددية الدينية واللغوية والعرقية والكثافة السكانية؛ إذ أسهمت العلمانية في حماية المسلمين، ولولاها لتمَّ سحق المسلمين على يد المتطرفين الهندوس. الثاني: أن العلمنة ليست آيديولوجيا؛ بل هي فضاء عام، ولا تخلق واقعاً جديداً؛ بل تبوّب الاختلافات بين الجموع وتعمل على تبيئة المجال الديني للفرد بما يجعل التدين أكثر تهذيباً وأشد تأنقاً.

في آخر المطاف؛ إن الجلبة والهستيريا تجاه المفهوم إنما تعكس الجهل بتطوره وتحولاته وعثراته أيضاً، ولكن من دون العلمانية يستحيل تأسيس دولة مدنية، هذه معادلة بسيطة لكل قارئ في تاريخ الشعوب والنظريات السياسية وتجارب الدول والأمم.

مفهوم جديد للعلمانية

في افتتاحية له نشرتها جريدة الانباء 22/03/1975، حدد مفهوماً للعلمانية يختلف عن المفهوم السائد لها عند الكثيرين في العالم ، فماذا قال حول هذا الموضوع؟

قال كمال جنبلاط ان "العلمانية مفهوم وشعار كالديموقراطية ، وكالاشتراكية بحد ذاتها، وكسائر المفاهيم السياسية ، ان جرّد عن حقيقة الانسان ووواقعه، انقلب صنماً وارتد ارتهاناً، واضحى في موقع الضلالة بالنسبة للمواطن... هكذا هو شعار العلمانية المحض: فيجب ان لا تكون اسطورة نفسية وخدعة سياسية . انما علينا ان نكتشف محتواها الحقيقي في ما تنبع منه من مطلب حقي – تقدمي فعلا – في الانسان ".

فما هو المحتوى الحقيقي للعلمانية عند كمال جنبلاط؟

يقول كمال جنبلاط : "علمانيتنا في الحزب التقدمي الاشتراكي نراها في الانسان ، ولا نرى الانسان فيها. فهي تتميز عن مفهومها في الغرب الديموقراطي وعن مفهومها في العالم الشيوعي ، فهي تقوم في الغاء الطائفية السياسية ، وفي ابطال التمييز بين مواطن ومواطن آخر ، وفئة اجتماعية وفئة اخرى بالنسبة لمعتقده ومعتقدها.

ولكن هذه العلمانية التي نتبناها، تلتزم بالقيم المعنوية والروحية التي ابدعها تطور الانسان التاريخي ، والتي تجلت ، بشكل رئيسي ، في تعاليم الاديان وشرعتها الخلقية ، وفي محاولة الانسان المستمرة التفتيش عن الحقيقة الاخيرة في نفسه ، وفي الاخرين ، وفي الدنيا ، ولو ألبس هذه الحقيقة الف زي وثوب، ولو جعل منها، في توقه اليها ، تتلبس الف صنم ، ولانزال على نهجنا وعاداتنا ، نلبس الحقائق الاجتماعية والسياسية، ومنها الايديولوجيات ، ثوب الاصنام ."

ويضيف في مكان اخر: "من هذا التوجه والادراك للانسان التاريخي ، وللانسان الحقيقي فينا ، يتوجب علينا – ان لا نهمل هذا التراث الروحي والمعنوي والخلقي المهذب والمستعلي بالانسان ، والذي تحقق عبر التاريخ."

ويلاحظ انه : "لا يصح اي نظام للحكم ، ولا اي نهج حياتي للفرد وللجماعة ، بدون هذا الاستشعار بحقائق وشرائع هذا العالم المعنوي للانسان ، وبالتمثل به عملياً، وبتحقيق ثوابته الدائمة . ودون هذا القران ، يكون كل بناء اجتماعي وسياسي ومعنوي آفة وبطلان وخسارة، اليس الضوء اهم في الاعتبار من الاغراض التي ينيرها؟! أوليس الانسان – ككائن معنوي - اهم من العقائد السياسية ومن الحضارة التي نلبس اثوابها؟ّ ولا يفيد ان "نكسب العالم وان نخسر انفسنا" اوليس هدف جميع الانظمة والمفاهيم والشعارات والايديولوجيات ترقية الانسان المعنوية والروحية في نهاية المطاف ، ورفع الارتهان ما أمكن عن كاهل فكره ونفسه؟!"

ويختم كمال جنبلاط رؤيته للعلمانية بهذا القول : "الانسان خلق لكي "يحيا" لا لكي يعيش. فلا جهد دون قصد، ولا مقصود دون قاصد. فالعلمانية "تكون تقدماً" اذا احتوت تراث الانسان، ومقاصد ارتفاعه، وصبوة اشتياقه الى انسانيته وحقيقته، وتكون جهلاً وتأخراً اذا هي تنكرت لحقيقة هذا الانسان وضرورة تطوره في سياق تراث التاريخ وتراكمه وتوضحه. علمانيتنا هي علمانية الخير المعنوي لا علمانية الجهالة ."


الكاتب

فهد سليمان الشقيران


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك