شغور رئاسي ، وشلل حكومي واداري ، وتعثّر نيابي ، وافلاس مالي، والان: تعطيل الانتخابات البلدية والاختيارية، وتهرّب من اقرار اللامركزية. ماذا بعد؟ والى اين نحن ذاهبون؟
ملح الارض
عباس خلف
قال كمال جنبلاط : "انا مع اجراء الانتخابات البلدية حتى لو لم تكفل وصول المستحقين . واقترح الاخذ بمبدأ النسبية في الانتخابات ، وبتوسيع صلاحيات البلديات بحيث تبرم هي كل معاملاتها، وتخضع لمراقبة لاحقة من التفتيش المركزي. واعتقد انه من الضروري ان يضاف بالتعيين الى كل بلدية محام ومهندس وطبيب ورئيس تعاونية ، اذا لم يتوفر بين الناجحين في الانتخابات من يمتهن هذه الاختصاصات."
(المرجع: كتابه "حوارات مع الصحافة" ص. 173 تاريخ 11/8/1973)
على الرغم من اهمية المجالس البلدية والاختيارية في الشؤون اليومية للمواطنين ، وعلى الرغم من اعلان وزير الداخلية استعداد وزرائه لاجراء هذه الانتخابات تنفيذاً للقانون ولمبدأ المحاسبة وتداول السلطات ، وتحديد مواعيد اجراء هذه الانتخابات خلال شهر ايار القادم. اصرّ ارباب السلطة التشريعية والحكومة على التهرب من اجرائها لغايات خاصة ، مع ان العديد من المجالس الحالية للبلديات محلولة او معطلة او مفلسة وعاجزة عن القيام بأي من المهام المطلوبة منها.
فعلى ضوء كل ما نشهده من مناكفات وفشل وتعطيل للسلطات والمؤسسات وفساد وغياب للمحاسبة ، تبرز اكثر من اي وقت مضى الحاجة الملحة الى قيادات قادرة على تجاوز كل ما يعطّل، وتقديم البدائل عما هو حاصل ، تتنافس على اساس البرامج والمشاريع الاصلاحية والانقاذية لاخراج اللبنانيين من المعاناة الشاملة، ولبنان من الانهيار. نحتاج الى قادة ينشرون الامل ويعملون لتأمينه ، بدلاً من زرع الخوف والقلق في النفوس.
ونحتاج اكثر ما نحتاج الى مواطنين واعين يسائلون مسؤوليهم من خلال صناديق الاقتراع ، وليس الى رعايا يخضعون ويتبعون على اساس الولاء للزعيم او المصلحة الانية او العصبية الطائفية والمذهبية او الحزبية وسواها من الولاءات .
نحن بحاجة اليوم الى قادة من امثال المعلم كمال جنبلاط الذي اعطى فكراً للسياسة ، وكانت له رؤى ترجمها مشاريع اصلاحية شاملة ، بعضها استطاع تحقيقه ، وبعضها الاخر حالت الطبقة الحاكمة على مر العهود دون تحقيقه خدمة لمصالحها الانية.
الجميع يتكلمون اليوم على اللامركزية الادارية وضرورة اعتمادها ، وقلائل يتذكرون او يعرفون ان رائد هذه اللامركزية كحلّ لتحسين ادارة شؤون اللبنانيين هو المعلم كمال جنبلاط. فهو ادرك اهمية ذلك منذ اواسط اربعينات القرن الماضي بعدما شهده من فساد وعجز وتزوير. وبعد مرحلة مكثفة من التشاور مع العديد من الشخصيات، عقد في اول ايار سنة 1949 مؤتمراً اعلن خلاله تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي. واستعرض فيه الاهداف التي سيسعى الحزب الى تحقيقها ، وبرنامج العمل الذي يخدم هذه الاهداف ويحقق شعار "مواطن حر وشعب سعيد".
وفي الرقم 12 من برنامج العمل ، تحت عنوان "الاصلاح الاداري" اعلن :
1- توسيع صلاحيات السلطات الاقليمية اللامركزية بنوع ان يتوفر لها نزعة العمل المثمر (INITIATIVE) والشعور بالمسؤولية .
2- انشاء دائرة مركزية للتفتيش الصارم في عمل السلطات الاقليمية . (المرجع: كتاب كمال جنبلاط "في رحاب التقدمية" ص. 24)
وفي وقت لاحق ، بعد احداث 1958 الدامية ، وبعد انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية ، توسّم كمال جنبلاط فيه خيراً للبلد ، ورفع له مذكرة اصلاحية شاملة تتضمن المرتكزات الاساسية لبناء الدولة في لبنان وتنظيم شؤونها نشرتها جريدة "الكفاح العربي" بتاريخ 31/10/1958 نورد منها، في باب التنظيم والاصلاح الايجابي ، البند الرابع كما يلي :
"تحقيق اللامركزية في الادارة على اوسع نطاق ممكن. وقد يكون من المستحسن انشاء مجالس ادارة في الماطق يقوم بانتخابها ارباب الهيئات البلدية ، ويكون من صلاحياتها القيام بأعمال عمرانية في المنطقة ، وتغذيها ميزانية خاصة ناجمة عن رسوم بلدية معينة.
كما وان هنالك خدمات زراعية وحرفية وصحية وبيئية وسواها تستطيع هذه المجالس الادارية ان تؤمنها بشكل افضل مما تستطيعه السلطة المركزية."
(المرجع: كتاب كمال جنبلاط "اسس بناء الدولة اللبنانية وتنظيم شؤونها" – ص.23)
لم تثمر الدعوة، وبقيت اللامركزية حبراً على ورق. وفي العام 1973، جدد كمال جنبلاط المحاولة في مذكرة وجهها لرئيس الجمهورية سليمان فرنجية بتاريخ 7/6/1973، ولم يؤخذ بها. ومع نشوب الحرب الاهلية سنة 1975، استشعر كمال جنبلاط المخاطر الداهمة على لبنان، ولانقاذ السلم الاهلي اعلن في 18 آب 1975 بإسم الحركة الوطنية البرنامج المرحلي من اجل اصلاح ديموقراطي للنظام السياسي في لبنان.
وفي باب الاصلاح الديموقراطي للتمثيل الشعبي ، احتلت اللامركزية مكان الصدارة . (المرجع: البرنامج كما وزع على وسائل الاعلام في حينه)
مزقت الحرب الاهلية لبنان وفككت مؤسساته ، وباعدت بين اللبنانيين ، واغتيل كمال جنبلاط في 16 آذار 1977 وازدادت الاحوال سوءاً وتعددت المداخلات فيها. وفي العام 1989، اثمرت الجهود الاقليمية والدولية مؤتمراً للمصالحة والتسوية في مدينة الطائف في السعودية ، صدر عنه "اتفاق الطائف" الذي تحول الى دستور جديد للبنان. وقد تضمّن نصاً يوجب اعتماد اللامركزية الادارية الموسعة. وبهذا تكون دعوة كمال جنبلاط قد تجسدت مادة دستورية بعد اربعين عاماً على اطلاقها.
اهمل ارباب الحكم الذين تناوبوا على السلطة بعد الطائف تحقيق ما تضمنه من اصلاحات ، ومن بينها اللامركزية الادارية ، سوى ان لجنة تشكلت ، وانجزت مشروع قانون اللامركزية الادارية الموسعة ، وحولته الحكومة الى المجلس النيابي لاقراره في العام 2014، لينام في الادراج، ولا يزال كذلك الى اليوم ، رغم تكرار الدعوة لاقراره من عدة اطراف مشاركة في السلطة منذ سنوات .
ويبقى السؤال : الى متى؟ وهل هناك ظروف تستدعي اقراره اكثر من الظروف الضاغطة اليوم؟
وبالعودة الى كمال جنبلاط ننقل عنه ما اعلنه في محاضرة قدمها في الندوة اللبنانية بتاريخ 15/12/1956 بعنوان " لبنان في واقعه ومرتجاه" ، عن اهمية اللامركزية للبنان:
"لبنان السياسي قائم على تنوع غريب عجيب في طبيعته ومكوناته البشرية ، ومنه يستمد هذه الحرية وهذه السماحة ، وهذه التقاليد الراسخة في الشورى والديموقراطية. لبنان وجد ليكون بلد اللامركزية ، ولم ينجح حكم في لبنان سوى حكم اللامركزية ، وانما الديموقراطية السياسية الناجحة في النهاية لا تقوم الا على اساس مرتكز قوي ومتطور من الديموقراطية البلدية المحلية."
(المرجع: كتاب كمال جنبلاط "لبنان في واقعه ومرتجاه" ص. 35)