مقال للدكتور عصام نعمان "كان مشروع نبي" – مجلة الانباء عدد نيسان 1977
ذكرى استشهاد المعلم كمال جنبلاط السادسة والاربعين
فرح
ما من عربي ، بعد جمال عبد الناصر كان معروفاً في العالم مثل كمال جنبلاط. كان اكثر اللبنانيين والعرب حضوراً وشهرة ، كان حاضراً بأفكاره ونضالاته ومواقفه السياسية المثيرة للجدل. كما كان معروفاً بعلاقاته وصداقاته وحيويته النادرة والصانعة، دونما كلل، اخبار الصفحات الاولى.
كان لبنانياً وعربياً يفيض فوق حدود وطنه.
كان جنبلاط عالمياً.
تسمعه يتكلم في الادب والفن والفلسفة والتصوف والعلم والطب والفلك، او تراه يمارس في السياسة والحكم والادارة والنضال الشعبي فتخاله مجموعة اشخاص في جسد رجل واحد، او مجموعة متناقضات في تأليف فريد غريب.
والحق انه كان كذلك: مرآة لفسيفساء شرائط وصورة لتنوع شعبنا وفكرنا وتقاليدنا واحلامنا ونضالاتنا وصبواتنا النابعة من وحدة تاريخنا ومصيرنا.
كان العقل ، عقله المسكون بعقل الامة ، هو المؤلف والموحد والمنسق والموجه لكل هذه الميول والتناقضات والصبوات. كان عقلانياً يفهم الواقع ويعي ابعاد التراث ويحبل بإرادة التغيير فيسعى الى التطوير والتنوير في منظور يكفل الاصالة والتجدد في آن معاً.
كان جنبلاط "لينين" عربياً
ما من مفكر وسياسي، بين العرب من معاصريه قاوم الظلم في حياته مثل كمال جنبلاط.
كان ردة فعل غريزية مستمرة ضد الظلم والظالمين.
قاوم الاضطهاد السياسي بفضحه قتلة الشهيد انطون سعادة.
قاوم الظلم الاجتماعي بانفصاله عن التراث الاقطاعي وتأسيسه حزب الفقراء والمحرومين وقيادته لنضالهم من اجل الخبز والعمل والعلم والحرية . قاوم الظلم المدني، المتمثل بافتئات جماعة المكتب الثاني على الحريات العامة ، بتصديه للقمع والارهاب ومطاردته لصانعيه الى ساعة انحسارهم.
قاوم الظلم الاستعماري بتبنيه قضية شعب فلسطين وانخراطه في نضاله والدفاع عن وجوده السياسي المسلح والعمل على كفالة حقه في تقرير المصير.
قاوم كل انواع الظلم بلا هوادة وبدون مقابل .
كان جنبلاط "برتراند راسل" الحقوق المدنية والقومية في شرقنا القهار.
كان جنبلاط وحدوياً عربياً عصرياً.
لم يؤمن يوماً بوحدة تجريدية بل بوحدة تجريبية متنامية صاعدة. لم ينطلق من وحدة اللغة اوالتقاليد والعادات فحسب ، بل من وحدة الشروط الانسانية وتماثل الظروف النفسية والمصالح الاقتصادية وخطورة التحديات الصهيونية والامبريالية المتربصة بالمستقبل العربي.
لم يدع العرب يوماً الى ان يجودوا بالكلام من مخرونهم اللفظي الذي لا ينضب بل الى ان يسخوا بمليارات الدولارات من عوائدهم النفطية ذات الارقام الخيالية من اجل التنمية والتحديث المادي والحضاري ، وللوفاء بموجبات التصدي لاسرائيل ولدعم حركات التحرير في آسيا وافريقيا.
كان جنبلاط خليفة عبد الناصر على مستوى العرب والعصر .
لم يكن جنبلاط منظماً. كان يقول دائماً: "انا لن اترك كنيسة ورائي ". الكنيسة ، هنا، بمعنى المؤسسة التراتبية المتماسكة.
ربما كان يعتقد ان لكل زمان تنظيماته الخاصة . ربما كان يخشى ، ان هو ترك تنظيماً متماسكاً ان يتكلّس ويتحجر ويقاوم في المقبل من الايام ، التجدد والتغيير ، فلا يكون اميناً للقاعدة الازلية القائلة بتبدل الاحكام بتبدل الازمان.
ربما كان مؤمناً بل شغوفاً بالتطور الى حدود القدرية ، يترك له العنان ليبدع مؤسساته دوماً مداخلة انسانية مؤثرة .
ربما كان جنبلاط متأثراً بالمسيح ومحمد وماركس: يزرع الكلمة في الارض والشعب ويتركها لتستنبت في يوم من الايام منظماً او مؤسساً كبولس او ابي بكر "والصحابة" او لينين.
كان جنبلاط اخيراً يعرف متى سيموت.
قبل اسبوع واحد من استقباله الرصاص في فجأة الغدر كان يودع رفيق نضال بمناسبة سفر بمهمة.
صافحه جنبلاط ولبث يشيّعه بعينيه حتى كاد ان يغيب في اسفل سلّم المنزل. ثم ناداه فجأة "اصعد اليّ". صعد الرفيق الى حيث كان المعلم واقفاً بقامته المديدة المنحنية قليلاً كالسنبلة الملأئ بحبات القمح. قال له بنبرة غير مألوفة : "دعني اقبل وجنتيك. اشعر بأنني سأقتل قريباً قبل ان تعود." وقبّل كمال الرجل لأول وآخر مرة في حياته.
كان جنبلاط ملهماً . كان مشروع نبيّ.