نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 69

الخميس 29 كانون الأول 2022

كمال جنبلاط والتجربة اللبنانية

ملف خاص بمناسبة ذكرى ولادة المعلم كمال جنبلاط

يقظان التقي

ماذا لو كان كمال جنبلاط معنا اليوم ؟ ربما تكلم الينا بلغة أخرى ، من نوع أن الوقت ، هو وقت العمل ، ليس وقت التمنيات من دون طائل ، بل وقت السياسات، ذلك أن ادارة هذا الصراع ، وظبطه ، والولوج بهدوء الى زمن التغيير، هو ما يحتاج اليه لبنان والعالم ، وفي سلم الأولويات التغيير في معنى مهنة السياسة ، التي تفتقر الى النضوج .

خمسون سنة ونيف ، مضت على اغتيال جنبلاط ، انتجت 5 اجيال لبنانية، كبرت في أحضان الوصايات ، من دون أن يكون عندها ، أو يتشكل لديها معنى فكريا ، وسياديا ، واستقلاليا ، بمعنى فكرة الحرية ، والنضال المستمر من أجل الكرامة الانسانية . تعثر الشباب طويلا في مراكب البطولة في مسار مضطرب ، أدى في نهاية المطاف الى حالة من التقهقر السياسي والاجتماعي ، والفكري ، ومن غياب المضامين التي ، يؤكد عليها علم السياسة والأوطان .بلد مثل لبنان يفتقد الى الخيال السويولوجي ، لا يتبصر بالتجارب التاريخية ، كيف يمكن لمواطنيه حل مشكلاتهم الداخلية ، بغياب اتجاهات حديثة تنخرط في خضم التحولات والمتغيرات السياسية ، والاجتماعية ، والثقافيه ، كجزء من تجريب سياسي يجد وقتا للعمل ، للنهوض بالبد من اخفاقاته المرتبطة بممارسات السلطة المتأخرة . سلطة بعيدة عن أعراف وتقاليد الممارسة السياسية المتعارف عليها ، أو بمقارنة مع مثيلاتها في دول أخرى. لم تحتكم الى ما يشبه التجربة السياسية اللبنانية ، التي كانت كارثية على كمال جنبلاط وبعضا من رفاقه . ليس صعبا فهم مصادر تلك الأعراف المستحدثة ، واستحالة البناء عليها في مجالات التحول .كأن الوقت غدا متأخرا . فالطبقة السياسية أهدرت الكثير من الوقت في الابتعاد عنها ، وأكتفت بحكم البلد عائليا ، وهو البلد الوحيد في العالم ، الذي تحكمه عائلات سياسية متباعدة ، ومتنافذة ، ومتنافسة في حقل من اللاانتاجية ، في ميدان تعزيز الانتماء الوطني الواحد، الذي يسوده كساد كبير بغياب مفكريين تقدميين وتغييريين أمثال كمال جنبلاط ، ونظرائه ، ممن بنوا هذه الفكرة التقدمية / المتجذرة وطنيا ، وعربيا وانسانيا ، منذ ثلاثينات القرن الماضي ، وفي ستيناته / العصرالذهبي لنمو الأفكار، والثقافات،والفنون ، والابداعات .

دخل البلد بعد اغتيال كمال جنبلاط العام 1977 في ركود سياسي كبير في كل المجالات ، من دون تواصلية مع المستقبل المنظور، لدرء مخاطر المجتمع المغلق ، والتخفيف من كلفة الأنغلاق ، "الغباوة السياسية "، على ما نشهده من ارتطام كبير حصل أخيرا ، وفي تطور نحو الاسوأ .

جاءت لحظة اغتيال الرجل في ستيناته ، تجريدية ، لا ندري اذا كانت ضرورة تجريدية لمن يتتبع مسار الأوضاع ، التي تنامت خلال العقود الأخرية على اللاشيئ ، اللاشي ء السياسي ، وما كان جنبلاط ليرضى بما يحصل للبنان وفلسطين مطلقا ، كجزء اساسي من تعامله السياسي، والعقلاني ، والواقعي مع الأوضاع . لكانت دعوته الى الغضب صارمة أمضى من صرخة الرجل التسعيني هيسيل " اغضبوا " في نيويورك ، وللخروج من البنى الزمنية المتهالكة ، باعتبارها ، لن لا تتلاقى مع نوازعه ، ودوافعه ، وخبرته ، وشواغله الفكرية والسياسية ، والاجتماعية ، والانسانية . كمال جنبلاط ، رجل متكامل ، من قلة تفكر استراتيجيا شرق أوسطية ، ما كان ليغفل في خطابه عن رفض السياق المتنامي لظاهرة الاستبداد السياسي ، وصعود الأفكار الماضوية الشعبوية ، ولا السياق الأقطاعي في القرن الواحد والعشرين للراسمالية المالية ، ما يذكر بفترات حكم الشخص الواحد في القرون الوسطى، وطغيان الميكافيلية السياسية ، والانقطاعات الراديكالية عن المسارات المستقبلية في شؤون الاجتماع الحديث ، وفهم عناصر البيئة والطبيعة ، والأنثروبولوجيا اليسارية ( تيلار دو شاردان وشيشرون ) وفي الممارسة السياسية .

كل ما جرى منذ اغتياله ، يتعارض مع فنون الحكمة التقليدية ، ويعبرعن مفاهيم خاطئة في ممارسة الشأن العام ، قريبا من مجتماعات الصيد ، وقد أ صبح معها مفهوم القدرة البشرية تركيبة مادية ( علما أن كل حواري السيد المسيح كانوا من طبقة الصيادين ..! ) ، مفاهيم خاصة بقيم البرجوازية ، وديمقراطية السوق ( جاك أتالي ) . حتى يمكن فهم الزمن في تلك المجتمعات انثروبولوجيا وتاريخيا ، وهي مجتمعات قديمة ناجحة ، خلقت انتاجات مهمة ، مجتمعات أكثر انسانية من الآن ، كان يمكن أخذها نموذجا أفضل ، من العودة الى مرحلة القرون الوسطى ، مع تحكم افراد الشركات المالية الكبرى بثالوث مجال الأرض ، والمال ، والاتصالات نموذج مايك ايلسون وشركائه ( الغافيين ) . بالعودة الى لبنان ، لا شيئ يبرر هذا الفراغ السياسي ، الذي قضى على الجماعة اللبنانية ، التي مثلت أدوارا جيدة في النهوض الثقافي والصحافي ، والسياسيي ، والادبي ، والفكري العربي الحديث ، وشكلت مرجعيات بنيوية في مسارات أممية مشتركة ، ما يتعلق بكل هيئات الأمم المتحدة الانسانية وحقوق الانسان ، والتي تعنى بالسلم والأمن الدوليين ، وشكلت استقطابات مهمة منحازة الى المجتمع الانساني المفتوح . لا شيئ يبرر هذا الشعور باليأس من عدم كفاية الوسائل السياسية للهرب من مأزق فقر وجوع اللبنانيين ، ومشاعر القلق من خطر وجودي على كيان البلد الصغير ، الذي قارب العالم السفلي في مستوى حياة منخفض عالميا .

كمال جنبلاط ، الرجل الذي التزم على الدوام برؤية ساعته ، كان ينظر الى أبعد من الساعة ، الى لبنان ، الى زمن ليس قديم / ليس جديد ، كميدان طبيعي لكل فعل، فيه خيرللبشرية والانسان ، ومنفعة عامة ، ونشاط تضامني مع الحقوق المدنية والحريات العامة . انتهى لبنان بعد أغتياله الى غياب الزمن ، الذي تزعزع خارج المنتظم السياسي ، المجتمع السياسي ، بفعل ممارسة نرجسية للسياسة ، عصر من النرجسية السياسية ، لم تؤثر في مستوى التطور الاجتماعي الحديث ، الذي ينخرط في الشباب اللبناني بكل طاقاته الايجابية ، التي أصبحت عمليا ، في الخارج الاغترابي . مع ذلك لم تنطو صفحة كمال جنبلاط . عادت في بحث اللبنانيين عن نموذج جديد ، ما بعد الطائف ، لادارة ذاتية لمشكلات التنوع والتعددية. سقطت مقايضات الوقت المتاح ، وغياب سياسات تدعم الأفكارالأصلاحية ، وترجمتها ما تزال واقعية سياسيا في البرنامج المرحلي للاحزاب والقوى التقدمية ، مع الأخذ بعين الاعتبارعمق التحولات والمتغيرات الاجتماعية ، الاقتصادية ، والديمغرافية . تتلمس مع كمال جنبلاط امكانية الحدّ من " الدنيّية " السياسية ، والنهوض بمستوى الحد الادنى من بساطة الحياة ، والمساواة المعيشية والطبيعية ، على قاعدة حرية وكرامة الانسان وسعادته ، وانتشاله من اشكال القلق والرعب اليومي .المقارنة قد تكون مشاعة بين جحيم الازمات اللبنانية الموصولة ، وبين الفشل السياسي الشامل في ادارة مرافق الحياة والبلاد . عالم يمشي من دون أفكار ، من دون وعي جماعي معاصر ، لفكرة الاصلاح ، والتقدم ، بوصفه ليس انتقالا من حال الى حال ، بل بوصفه وسيلة تطويرية في بناء مجتمعات حديثة ، وما يؤكد على مسؤولياتها الاجتماعية والانسانية ، والا ما معنى السياسة اذا لم تخدم هذا الانسان وشروط تعافيه في العمل والفكر والحياة . لا حاجة للتذكير بكمال جنبلاط الظاهرة المتعددة في الفكر ، والسياسة ، والفلسفة ، والانثروبولوجيا والتاريخ ، وانخراطه في العمل المباشر والثورة وادارة التسويات . أكمل رسالته بجهود كبيرة ، هي عرضة مجددا للنقاش ، والتفكر ، والـتأمل . ما يدل على حساسية الرجل ازاء مجمل القضايا الراهنة، والحقائق ، لا نقول الحقائق المطلقة ، بل نقول مع نيتشه ودولوز ، لحقائق النسبية ، في مجتمعات ما بعد استهلاكية ، مجتمعات سيّالة مجتمعات ما بعد الحقيقة ، قاربها جيدا كمال جنبلاط في كتابيه " ثورة في عالم الانسان " ، و" وفيما يتعدى الحرف " في محترفه الوجودي والسياسي ، ما جعله وحيدا في عين العاصفة التي أودت بحياته باكرا ، في مواجهته سادة السياسة البلطجيين . لم يمارس السياسة كبدعة ، وسحرا ، وانما انخرط مع المناضلين الفقراء ، البسطاء ، المساكين ، الذين لم تغادر قمصانهم المهترئة جسد المكان ، الذي ضاق به ، ما يدعونا الى الغضب في كل مرة يترائء لنا في وجهه البهي ، لغته النظيفة ، والعالم الجديد كان يليق به . عالم تحول ميادين من الغضب والاحتجاجات ، اذ لا تعكس الافكار القائمة في السلطات العليا ، الا أوهام افكارماضوية ، تناقض مستويات جديدة من العلم والترقي في أحلام الشباب ، نساء ورجال في آن ، في وجه المجتمعات المغلقة . رجل شاعر كما هاينريش هاينه ، قضى في خدمة النضال السياسي . ما زال يزعجنا في اسئلته المركبة ، وردة الفلسفة الحديثة جنبلاط ، تلك التي فتنت هايدغروريلكه ، تختبئ خلفها ماساة الارض ، ماساة كمال جنبلاط المرتحل من لبنان بين المآسي وكثرة اللغات ، وفي مناقشاته حاجات الانسان ( اريك فروم ) . حسبه أنه كان السيد المعاصر الذي لم يفقد السيطرة على ذاته، وعلى قراره الحر والمستقل . وهو الذي قرأ العالم بمجازات موحية ، روحية مجازية . اسماً كبيرا في موسوعه الفلاسفة والمفكرين الكبار . لم تسقط مبادئه، الراسخة في ضمير ووجدان تاريخ متحرك من الحياة الانسانية . يمكن نعت من اغتال كمال جنبلاط ، يمكن نعت لبنان ، الذي لم يعرف جيدا كمال جنبلاط ، بالكارثي / بالعبثي ، الذي لا يحب الحياة .


الكاتب

يقظان التقي

مقالات أخرى للكاتب

العدد 65

الثلاثاء 30 آب 2022

عودة النازحين السوريين تنتظر الحلول السياسية

يقظان التقي


تعود قضية اللاجئين السوريين في بلدان الجوار الى الواجهة ، وهذه المرة من الزاوية اللبنانية التي تعاني اشباعات في السجالات ، التي تجري بشأنها موسميا ، وبمحصلة تطوى على اللاشيء ، لجهة انحراف الملف عن أهدافه ، في ظل غياب الحلول السياسية . هي العودة الى المراوحة والشعبوية السياسية ، تضاف اليها معاناة العائلات السورية النازحة ، هربا من المجازر والتنكيل ، والممارسات التعسفية التي رافقت الحرب . يتحول الملف الى قنبلة على طاولة اللبنانيين اليومية ، الغارقة بالأزمات الداخلية ، ما يعزز التوترات التي تثير

العدد 59

السبت 26 شباط 2022

لبنان بلد مؤجل

يقظان التقي


حالة سياسية معقدة جدا ! دخل لبنان مع سرعة التطورات الدولية الاخيرة سواء ما يحدث على حدود اوكرانيا او ربطا بنتائج مؤتمر فيينا حول الملف النووي الايراني منعطفا انتظاريا غاية في الخطورة .

العدد 54

الخميس 30 أيلول 2021

السياسة تعاسة كبيرة في لبنان

يقظان التقي


" السياسة تعاسة كبيرة في لبنان " ، خلاصة من كتاب التربوي الكبير منير ابو عسلي الذي يعرض لتجربة فؤاد شهاب في بناء المؤسسات ، والتربية من عوالمها الرئيسة والحساسة .


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك