نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 68

الخميس 01 كانون الأول 2022

ما الذي يمنع لبنان من أن يكون سويسرا الشرق؟ قراءة إقتصادية في الأزمة الحالية

مقال اقتصادي

د. جاسم عجاقة

التداخل القوي بين المجال السياسي والمجال الإقتصادي كبير وينبع من الحصرية التي أعطاها الدستور اللبناني للحكومة في وضع وتطبيق السياسات الإقتصادية والإجتماعية. هذه الحصرية تجعل من اللاعبين الإقتصاديين، سواء كانوا أُسر أو شركات، رهينة القرارات التي تتخذها الحكومات والتي قد تمنع القيمة المضافة التي يقدّمها هؤلاء اللاعبون للمجتمع في ظل إطار منظم تراعاه الدولة من دون أن تشترك فيه.

النظرية السياسية تنصّ على أن الأيديولوجيات يجب أن تكون مكتوبة في مقدمات الدساتير. هذه الأيديولوجيات هي نتاج العقد السياسي – الإقتصادي – الإجتماعي الذي تتوافق عليه مكونات المجتمع، وتكون باقي مواد الدستور والقوانين التي يُقرّها المجلس النيابي هي تطبيق لهذه الأيديولوجية التي تنص وبشكل واضح على عدد من المبادئ السياسية والإقتصادية والإجتماعية.

المخاوف الأساسية التي تجتاح العلوم الإقتصادية تطال الأيديولوجيات السياسية التي تفرض نفسها -كضيف ثقيل- على الواقع الاقتصادي وبالتالي تُلغي كل الحقائق العلمية لصالح أيدولوجية قد لا تكون الأنسب للمجتمع ولكنها مفروضة سياسيًا بحكم أن السلطة مُنتخبة من الشعب.

السياسات الإقتصادية والإجتماعية التي تضعها الحكومات وتُقرّ في المجالس النيابية، يجب أن تخدم الأيدولوجية المنصوص عليها في مقدمة الدستور . وبالتالي تمّ حصر القدرات العلمية في المجال الإقتصادي ضمن إطار أيديولوجيا تفرضها السلطة الحاكمة والتي تجعل من تعظيم عمل الماكينة الإقتصادية مرهونًا بعوامل عديدة وعلى رأسها العوامل الجيو إقتصادية التي تتعلّق بدورها بالعديد من العوامل الأخرى مثل العوامل الجيوسياسية، والجغرافية، والثقافية.

وتنص الأبحاث الإقتصادية على أن إدخال القطاع العام كعنصر محوري في الديناميكيات السياسية – الإقتصادية هي نموذج عن التداخل السياسي – الإقتصادي. ويُظهر هذا النموذج أن اللاعبين يمتلكون وظيفة منفعة صريحة تدمج المتغيرات الاقتصادية والسياسية في وقت واحد، يقررونها بموجب مجموعة من القيود الاقتصادية والسياسية. من هذا المُنطلق يأتي دور نزاهة وإستقلالية القطاع العام ليلعب دورًا محوريًا في نهوض الدولة الاجتماعي والإقتصادي.

من المعروف أن الأحزاب التي تسعى للسلطة، تمتلك الرغبة بالحفاظ على السلطة ويُصبح هذا الأمر هدفًا رئيسيًا لها. ولكن في كل بلد فيه مستوى من الإرتقاء السياسي هناك أيضًا أهداف أيديولوجية سواء كانت نتاج قناعة أو نتاج ضغوط داخلية أو خارجية، بالإضافة إلى أهداف طويلة المدى تبغى الاستقرار والرفاهية حتى لو كانت الخيارات التي تتخذها الحكومات لها أثمان مُكلفة على المدى القصير من ناحية الشعبية أو نتائج الانتخابات. وهنا تنصّ نظرية دورة الأعمال السياسية على أن "قصر النظر النسبي للناخبين، يجعل الحكومات تميل إلى عدم إستقرار الاقتصاد" كما تفرضه نظرية السياسة الاقتصادية المثلى (Optimized Policies)، وتتجه الحكومات إلى نوع من زعزعة إستقرار الاقتصاد بطريقة سياسية – انتخابية مفيدة للأحزاب في السلطة.

تُشير التحاليل الميدانية إلى أن الدول في طور النمو هي الأكثر عرضة لهذا النوع من السلوك السياسي. فوضع سياسي غير ثابت يؤدّي حكمًا إلى هروب رؤوس الأموال وهجرة الأدمغة مع تراجع في الناتج المحلّي الإجمالي وزيادة في التضخّم. ويُعطي الباحث "جان لافي" مثالًا عن ذلك المؤسسات الدولة التي تخسر الأموال وعلى الرغم من ذلك تستمر في عملها لإعتبارات سياسية على حساب الإعتبارات الإقتصادية التي تفرض إلغاءها أو إعادة هيكلتها بالحدّ الأدنى. وبالتالي يخلص الباحث إلى أنه "من المُستحيل فهم السياسات الإقتصادية في البلدان غير النامية أو في طور النمو من دون إدخال البعد السياسي الذي يبرز أكثر من دوره في البلدان المُتطورة حيث يتمتع الناخب بوعي إقتصادي أكبر".

وفي محاولة لنمذجة هذه الظاهرة، قام الباحث "لافي" برسم ديناميكية العلاقة بين السياسة والإقتصاد وقسمّ الرسم إلى ثلاثة ديناميكيات على الشكل التالي:

- الديناميكية الأولى: تحوي على التأثيرات الإقتصادية والسياسية للإجراءات المُتخذة والمنفّذة من قبل الحكومة واللاعبين الخارجيين كصندوق النقد الدولي مثلًا؛

- الديناميكية الثانية: تحوي على ردة الفعل الإقتصادية والسياسية للحكومة على أحداث إقتصادية وسياسية مُعيّنة ؛

- الديناميكية الثالثة: تشمل تبرير للمساعدات الخارجية بحسب الإطار الاقتصادي والسياسي القائم آنيًا.

ويستنتج الباحث أن القطاع الخاص هو العنصر الرئيسي في العلاقات الإقتصادية خصوصًا في تحقيق النمو الإقتصادي، والتجارة مع الخارج، والوظائف، والتضخّم... وغيرها. وبالتالي تتفاعل الحركات العمالية والمجتمع المدني مع تطوّر هذه المؤشرات من خلال إحتجاجات وإضرابات تُترجم عادة بثمن إنتخابي تدفعه القوى السياسية في البلدان التي فيها ديموقراطيات ووعي مُجتمعي كبير. لكن في الدول التي فيها وعي أقلّ أو يلعب البعد المذهبي دورًا في اللعبة السياسية، تتعقد الأمور بشكل أكبر ويتجه الوضع الإقتصادي والإجتماعي نحو التآكل من دون تعديل في الواقع السياسي.

يقول الباحث "زيف ماؤز" من جامعة كاليفورنيا، ان البعد الديني لا يشمل فقط البعد الفردي-الشخصي بل يطال أيضًا الحياة العامة التي يؤثّر فيها من خلال مأسسة الكيانات الدينية! وبالتالي يُصبح لهذه المؤسسات دورًا في التأثير الأيديولوجي والعملاني على الأرض داخل مجموعات تُصوّت عادة بنفس الإتجاه في الانتخابات. وهو ما يتمّ إستغلاله من قبل القوى السياسية في إتجاه مصالح سياسية إقتصادية تؤدّي عادة إلى ضرب الديموقراطية بمفهومها النظري القائم على قانون الأعداد الكبيرة وخيارات حرّة مبنية على وعي الناخب الإقتصادي.

كارل ماركس والذي عالج مُشكلة الدين ودوره في السياسة ضمن إطار الفلسفة السياسية، أظهر أن النخب التقليدية والبرجوازية تستخدم الدين لدعم البنية الطبقية وخضوع البروليتارية. وهذا ما يُبررّ "المنظور الذرائعي" للدين والنظرية السياسية. من هذا المُنطلق، يُمكن الإستنتاج أن التقاعس في إتخاذ القرارات الإقتصادية، التي من المفروض أن تُخرج لبنان من أزمته الحالية، يكمن في قسم كبير منه في الحسابات السياسية والدينية التي تُسيطر على الحياة الإقتصادية اللبنانية.

وهنا يحق لنا أن نسأل: لماذا لا يقوم المجتمع المدني والحركات العمالية في لبنان بإحتجاجات كما تنص عليه النظرية السياسية والإجتماعية والفلسفية؟ العديد من التبريرات تمّ إعطاؤها في تحاليل الخبراء منها أن الشعب لم يصل إلى نقطة المجاعة بعد، أو الإرتهان للقوى السياسية والأحزاب، أو الإستفادة المادية من هذه الأحزاب، أو البعد الديني الذي يقسم المُجتمع اللبناني إلى مجموعات. وبإعتقادنا، وكما صرّح كارل ماركس، لن يعي المُجتمع اللبناني حقيقة الواقع المرّ الذي وصل إليه إلا مع الـ social dumping الذي تعرّض له والذي ستظهر آثاره في المرحلة المُقبلة بشكل عنيف قد يقود إلى ردات فعل عنيفة على شكل ما حصل في رومانيا في تسعينيات القرن الماضي.

ليس بخفي على أحد ان ما يعيشه لبنان من فساد عطّل العمل السياسي المقرون بالفضيلة كما نصّت عليه نظرية أفلاطون. هذا الفساد هو إرث طويل وثقيل حيث ومنذ نشوء الدولة اللبنانية وحتى قبل ذلك بكثير، عبث الفساد ولا يزال بأوصال الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية. ويُذكّرنا أرشيف الصحف اللبنانية بفظاعة وشمول الفساد في النصف الثاني من القرن الماضي في لبنان حيث عنونت جريدة الأنباء في 17 أيار من العام 1974 على صفحتها الأولى " الفساد في البلاد صار عامًا، المطلوب انقلاب سياسي سلمي لإصلاح الحال"، وهو عنوان لا يزال قائمًا في أيامنا هذه مع كل ما يحمله هذا العنوان من معاني لا يعرفها إلا من يعيش في لبنان.

جاسم عجاقة – أستاذ الإقتصاد في الجامعة اللبنانية


الكاتب

د. جاسم عجاقة


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك