الثلاثاء 01 تشرين الثاني 2022
التصرفات النيابية تفضح الخفايا وعدم تحمل المسؤولية
مع الاحداث
سعيد الغز
في محاضرة له في الندوة اللبنانية بتاريخ 18 تشرين الثاني 1946 تحت عنوان "رسالتي كنائب"، حدد المعلم كمال جنبلاط رسالة النائب والدور المطلوب منه القيام به ، نورد بعضاً منها ونضعه بتصرف السادة النواب ، لعلهم يجدون فيها عبرة ، ويعتبرون :
"رسالة النائب تشمل في الجوهر تفهّم وتفهيم الديموقراطية الصحيحة لمواطنيه... رسالته ان ينشر حوله تكريم الشخصية البشرية ، واحترام الحريات العامة : الحرية الشخصية ، حرية المناقشة ، حرية الاجتماع ، وحرية الرأي ، وضمان الحقوق المشروعة : حق التعلم ، حق العمل ، حق السكن ، حق العيش الكريم ، وغرسها في نفسه وفي نفوس الاخرين . فهو قبل ان يكون مدافعاً عن مصالح معينة ، قومية كانت ام سياسية ام محورية اقليمية ، وقبل ان يكون داعية لفكرة معينة ام لمبدأ او لحزب ، هو باني ديموقراطية ومؤسس دولة ."
في عودة سريعة الى شريط الاحداث هذا العام 2022 ، نذكّر بفشل مختلف سيناريوهات عرقلة اجراء الانتخابات النيابية . اجريت هذه الانتخابات في 15 ايار المنصرم ، واسفرت عن نتائج رقمية وازنة لنهج العمل على التغيير. وخسارة المنظومة الممسكة بالسلطة اكثريتها النيابية . وعلى الاثر طرح العديد من التساؤلات، بعضها يتفاءل بالنصر والقدرة على التغيير، ووضع البلد على سكة الانقاذ والتعافي من المعاناة الشاملة ، وبعضها الاخر متشائم ومشكك في امكانية تحقيق التغيير المأمول لقدرة الممسك الفعلي بالقرار في لبنان على تعطيل مفاعيل الانتخابات وضمان قدرة فريقه على الاستمرار في ادارة شؤون الوطن والمواطنين رغم الفشل الذريع الذي سجله في ادارة هذه الشؤون .
وفي ما يلي – سنترك للوقائع التي تلت هذه الانتخابات ان تجيب : اي التساؤلات كانت محقة ؟ والى اين تتجه الامور مع المجلس النيابي الجديد؟
الواقعة الاولى: انتخاب هيئة مكتب المجلس النيابي الجديد
دخلت الاكثرية النيابية هذه الانتخابات مشرذمة ومشتتة ، بمواقف متباينة، وعجز فاضح عن توحيد المواقف، تقابلها "اقلية" نيابية متماسكة يديرها "مايسترو" صاحب قرار، فخسرت "الاكثرية" كل المراكز : رئاسة المجلس ، نيابة الرئاسة ، امناء السر ، اعضاء هيئة مكتب المجلس ، وسيطرت المنظومة ذاتها من جديد على ادارة اعمال ونشاطات المجلس النيابي للسنوات الاربع القادمة .
الواقعة الثانية : انتخابات اللجان النيابية
لم تستدرك "الاكثرية" النيابية الدرس من فشلها السابق ، فخاضت هذه الانتخابات مفككة من جديد ، وحصدت الفشل ، وسيطرت المنظومة ذاتها على هذه اللجان التي لها دور اساسي في دراسة مشاريع القوانين قبل احالتها على الهيئة العامة لاقرارها. وهكذا استمر الفريق ذاته بإدارة صاحب القرار ذاته ممسكاً بكامل مفاصل عمل السلطة التشريعية والرقابية .
الواقعة الثالثة : تشكيل حكومة جديدة
وفقاً للدستور اللبناني، تقدمت الحكومة باستقالتها بعد بدء العقد البرلماني الجديد ، ودعا رئيس الجمهورية لاجراء استشارات نيابية ملزمة ، تقرر اكثريتها اسم الشخص الذي سيكلف بتشكيل الحكومة الجديدة . وقد اسفرت هذه الاستشارات عن النتائج التالية : 54 صوتاً للسيد نجيب ميقاتي ، و 25 صوتا للدكتور نواف سلام ، واستنكف 46 نائباً عن تسمية اي شخص. ظاهرياً هذا دليل على حرية الاختيار ، وتعبير عن ممارسة الديموقراطية . ولكن مبدئيا واخلاقيا ً وتفويضياً من المفترض بمجلس نيابي جديد ان يختار مجتمعاً الحكومة الجديدة التي ستكون مسؤولة امامه عن نجاحها او فشلها في ادارة شؤون البلد. وعلى النائب المنتخب حمل وكالة ناخبيه والتعبير عن ارادتهم ومطالبهم ، والتصويت للحكومة الجديدة التي عليها ان تتجاوب مع هذه الارادات والمطالب. والموقف السلبي من النائب وعدم التسمية يعتبر خيانة لهذه الوكالة اياً كانت المبررات ، وكل من اتخذ هذا الموقف ساهم ، عن وعي او عن غير وعي ، بإفساح المجال للمنظومة المشكو من ادارتها الفاشلة لمواجهة المعاناة التي تثقل بكاحلها على اللبنانيين . واصدق دليل ما ترتب على ذلك من فشل في تشكيل حكومة جديدة وتفاقم الازمات.
الواقعة الرابعة: انتخاب رئيس جديد
استناداً للدستور ايضاً حدد رئيس المجلس النيابي موعداً لعقد جلسة يتم خلالها انتخاب رئيس جديد للجمهورية ، وعقدت هذه الجلسة التي مع الاسف تحولت الى مسرحية هزلية بعيدة كل البعد عن الجدية المطلوبة لانتخاب رئيس جمهورية قبل 31 تشرين الاول ، فكيف لجلسة بهذه الاهمية ان يشارك فيها 63 نائباً بالتصويت بأوراق بيضاء. وبدلا من اجراء دورة انتخابية ثانية كما ينص الدستور ، يتدافع العديد من النواب للخروج من القاعة وتعطيل النصاب. ان هكذا تصرفات غير مسؤولة ، تهدد بعدم القدرة او بعدم الرغبة في انتخاب رئيس للجمهورية . تصوروا فقط مفاعيل هكذا تصرفات: فراغ رئاسي، فشل حكومي، لتقاعس مجلس النواب عن القيام بالواجب المطلوب منهم اخلاقياً ودستورياً ووطنياً.
على ضوء كل هذه الوقائع يتزايد التشاؤم حول القادم من الاستحقاقات. ويبرز التساؤل: هل سنتمكن في مثل هذه الاجواء والانقسامات من تشكيل حكومة جديدة ، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية ؟ وما مصير الوطن والمواطنين ؟ هل ستحصل اعجوبة وعي من النواب وارباب الحكم والسياسة ، قيقدمون على تقديم مصلحة الوطن على المصالح الشخصية والفئوية ويسهلون تشكيل الحكومة وانتخاب الرئيس؟ وحده مستقبل الايام سيحمل الجواب ، وما علينا سوى الانتظار وقد اصبح اجله قريب. ونختم بأن نضع بتصرف السادة النواب رؤية المعلم كمال جنبلاط حول العمل النيابي:
"اللعبة البرلمانية الحقيقية لا تتم الا ضمن منطوق الصراحة مع النفس ومع الاخرين . والصدق في مواجهتنا المبادئ والثبات على التمسك بها ، وانتقاد الحكام والاخرين او تأييدهم على اساسها. ونحكم ونحاسب بعقلنا ووعينا لا بمصالحنا. وبهذا فقط نكون نقوم بواجبنا ونعبر بصدق عما يريده منا من انتخبونا."
(المرجع: كتاب كمال جنبلاط "لبنان والجسر الوطني المقطوع" ص. 107)