الثلاثاء 04 تشرين الأول 2022
ما الذي جمع بين كمال جنبلاط وجان جوريس؟ وما الدافع لهذا السؤال الان؟
مع الاحداث
سعيد الغز
اثناء وجودي في فرنسا مؤخراً، تسنى لي متابعة الاحداث في هذا البلد ، وتسجيل بعض الملاحظات حول ما تواجهه فرنسا اليوم من محاولات تعطيل ممنهج لمؤسساتها. فبعد انتخابات رئاسية سجلت فشل التطرف اليمني واليساري في الفوز بها.
تلاقى المتطرفون في السعي المشترك لتعطيل مفاعيلها، من خلال الانتخابات النيابية التي افرزت فوز التطرف بما يمكّنه من التعطيل في اتخاذ القرارات اللازمة لتسيير امور الدولة والمواطنين. فرغم ان اطراف هذا التطرف متناقضون في المنطلقات، فانهم متوافقون في الاساليب الشعبوية والتعطيلية. وما يحدث في مجلس النواب من تصارع على كل شيء، ومحاولات لتعطيل اقرار مختلف مشاريع القوانين ايا كان الهدف الاصلاحي منها ، خير دليل على هذه الشعبوية التي تدمر ولا تثمر . وتذكرت المعاناة الشاملة والانهيار التام لمؤسسات الدولة في لبنان وتصاعد المواقف الشعبوية المتطرفة التي تنذر بزوال الكيان والدخول في الفراغ والمجهول .
وقد لفت انتباهي عنوان رئيسي في صحيفة فرنسية "Franc Tireur" : "اعيدوا لنا جان جوريس !!!" وتساءلت بدوري الا يصح لنا في لبنان ان نطالب "اعيدوا لنا امثال كمال جنبلاط؟" فالكثير الكثير يجمع بين ما تعاني منه فرنسا اليوم وما يعاني منه لبنان . والكثير الكثير يجمع بين جان جوريس وكمال جنبلاط ، رغم فارق الزمن بينهما.
جان جوريس سليل عائلة بورجوازية غنية ، دخل السياسة عن طريق النيابة. في ثمانينات القرن التاسع عشر كمدافع عن المصالح البورجوازية الجمهورية . ولكنه سرعان ما خرج من عباءتها ليدافع عن الضعفاء المهمشين من الفئات الشعبية والعمالية .
وكمال جنبلاط سليل عائلة اقطاعية لعبت دوراً بارزاً في تاريخ لبنان الحديث ، دخل السياسة عن طريق النيابة سنة 1943 بحكم الارث العائلي. ولكنه سرعان ما خرج من عبائته ليتحول الى اول مدافع عن حقوق العمال والفلاحين والفئات الشعبية .
جان جوريس المتخصص في الفلسفة ، والاستاذ الجامعي الواسع الاطلاع على شؤون الفكر ، بما في ذلك الفكر الماركسي ، امتهن الصحافة لنشر افكاره الاشتراكية ، والتواصل مع الناس. وعندما طرأت قضية الضابط "دريفوس" ومحاكمته غير العادلة التي احدثت انقساماً كبيراً في الرأي العام ، وقف "جوريس" صراحة الى جانب "دريفوس" البعيد عن نهجه وتفكيره بإسم القيم الجمهورية وحقوق الانسان والمواطن والعدالة والتضامن، وهي الاسس التي يفترض ان تقوم عليها الاشتراكية المرتكزة على المؤسسات الجمهورية ، والمتمكسة بقيم الحرية والحقيقة التي تتقدم على ما عداها.
وكمال جنبلاط المنطلق من دراسة الحقوق ، والمتابع لمختلف شؤون الفكر والعلم والفلسفة والتيارات السياسية ، قديمها وحديثها. مارس تدريس مادتي التاريخ والاقتصاد في الجامعة، قبل ان يمتهن السياسة فيحيطها فكراً، ويحدث فرقاً شاسعاً في ما يجب ان يكونت عليه النائب ودوره ، والقائد السياسي ودوره ، والمناضل ودوره. وعندما طرأت قضية الزعيم انطوان سعادة ومحاكمته الصورية كان الوحيد بين النواب الذي وجّه استجواباً للحكومة حول التجاوزات القانونية والاخلاقية المرتكبة في هذه المحاكمة ، وذلك بإسم القيم الاخلاقية ، والحقوقية والعدالة وحقوق الانسان والمواطن ، وهي الاسس التي يفترض ان تقوم عليها الديموقراطية السياسية السليمة .
"جان جوريس" اسس الحزب الاشتراكي الفرنسي في مطلع القرن العشرين ، ودعا الشعوب الاوروبية الى تبني الاشتراكية العلمانية التضامنية التي وحدها تستطيع بناء دولة الرعاية والحماية والتقدم والعدالة والتضامن الاجتماعي ، المؤمنة بالسلام والمعادية للحرب.
وكمال جنبلاط اسس الحزب التقدمي الاشتراكي سنة 1949، غلى اسس الديموقراطية في السياسة ودعا الى اقامة دولة المؤسسات التي تحترم الحقوق ، وتحمي الحريات . وتحقق العدالة والمساواة والتضامن الاجتماعي وتفصل الطائفية السياسية عن الدولة التي يجب ان تكون علمانية. ودعا الشعوب العربية الى تبني هذه الاشتراكية الانسانية التي تحترم القيم الدينية والمعنوية المؤمنة بالسلام والرافضة للحرب وويلاتها ، والمعسكرات والاحلاف وتداعياتها.
افكار "جان جوريس" ومواقفه الصلبة من الحرب واربابها ، حملت هؤلاء على اغتياله في 31 تموز 1914 قبيل نشوب الحرب العالمية الاولى المدمرة .
كذلك افكار كمال جنبلاط ، ومواقفه الرافضة للعنف والحرب والاحلاف العسكرية ، ومشاريعه الاصلاحية الشاملة ازعجت ارباب السلطة في لبنان والمنطقة العربية ، وتجار الطائفية والفساد والمحسوبية ، والمصالح الشخصية ، فتآمروا عليه واغتالوه في 16 آذار 1977. وتلا ذلك ما اصاب لبنان والشعوب العربية من خراب ودمار واقتتال لاتزال تداعياته ومفاعيله ظاهرة للعيان حتى اليوم .
الشبه الكبير بين القائدين ، وكذلك المصير ، والحاجة لأمثالهما اليوم اذا كنا نريد حقاً الخروج من المعاناة والانقسام والشرذمة، والتضحية بالوطن والمواطن على مذبح الطموحات الشخصية والولاءات الفئوية والانحيازات المحورية الاقليمية والدولية .