المشكلة هي في تفكّك الدولة وسقوط المؤسّسات مقال اقتصادي
غسان العياش
أكثر ما يثير ذعر اللبنانيين في المرحلة الراهنة من تاريخهم ليس احتدام الصراع السياسي ولا تعذّر تشكيل الحكومة أو البطء في اتّخاذ القرارات لمواجهة أزمة لا سابق لها منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية. أكثر ما يخيفهم هو تفكّك الدولة وتوزّع مواقعها على أصحاب النفوذ مما ينعكس شللا كاملا على المؤسّسات والمرافق والخدمات.
هذا الواقع ينذر بسقوط الدولة سقوطا مريعا وترك المواطنين لمصيرهم، لا حماية لهم في وجه مخاطر الفقر والجوع والمرض. والدلائل على تفكّك الدولة واضحة للعيان وليست بحاجة إلى دليل أو إثبات. لقد باتت السلطات التشريعية والتنفيذية، ناهيك عن القضائية، عاجزة عن القيام بأبسط أدوارها وتتلكّأ عن اتّخاذ قرارات ضرورية، بل مصيرية، في مواجهة الأزمة الراهنة. لقد تعطّل صدور القوانين الأساسية التي تعتبر بديهية، والتي ينتظرها اللبنانيون وينتظرها قبلهم المجتمع الدولي.
قانون القيود المؤقّتة على السحوبات والتحاويل، المسمّى "كابيتال كونترول" هو إجراء بديهي تتخذه البلدان التي تتعرّض للأعاصير النقدية والمصرفية، حرصا على حماية حقوق المدّخرين والعملة الوطنية، والمهمّ في هذا القانون هو صدره بأسرع وقت ممكن لأن كل تأخير يعرّض العملة والادّخارات الوطنية للذوبان والضياع.
كان مفروضا صدور هذا القانون في الأيام الأولى للأزمة، أي في خريف سنة 2019، لكنّه تأخّر حتى اليوم قرابة ثلاث سنوات. وأدّى تأخّره إلى استئثار أصحاب النفوذ بامتياز إخراج أموالهم من البلاد بينما أموال الأكثرية الساحقة محتجزة في النظام المصرفي اللبناني وهي مجهولة المصير. وبعد أخذ وردّ طيلة هذه الفترة الطويلة، أحال نائب رئيس المجلس النيابي إلى اللجان النيابية مسودّة جديدة لقانون الكابيتال كونترول من المحتمل أن تفتح الطريق أمام مرحلة جديدة من المماحكات في مجلس النوّاب بدل أن تحلّ المشكلة. ففي بعض المحاور الرئيسية للقانون اكتفت الصيغة الجديدة بعرض الاقتراحات المتعدّدة والمتناقضة تاركة للنوّاب الاختيار بينها.
وكان من المفروض أن تتضمّن المسودة خيارات محدّدة في المواضيع المثارة، والمثيرة للجدل، تاركة للبرلمان الموافقة على هذه الخيارات أو رفضها. على سبيل المثال لا الحصر، تطرّقت الصيغة المعروضة إلى مصير الدعاوى المقدّمة من قبل بعض المودعين في لبنان والخارج ضد المؤسّسات المصرفية ولحظت الآراء المختلفة حيالها، بين اسقاط هذه الدعاوى أو إبقائها حيّة بانتظار صدور الأحكام بشأنها من قبل المحاكم اللبنانية أو الأجنبية. ومن شأن ذلك تحوّل المجلس النيابي مرّة أخرى إلى سوق عكاظ يتبارى فيه النوّاب بين مؤيّد أو معارض لهذا الخيار أو ذاك.
ما يهمّنا هو أن هذه الطريقة تؤدّي إلى تمديد الخلافات حول محاور القانون ربما لسنة أو أكثر، فيما المطلوب الإسراع في بتّ القانون حماية لما تبقّى من حقوق للمودعين، إذا بقي شيء منها.
موازنة سنة 2022 هي مثال آخر للتردّد والتسويف والتأجيل حيال مسألة حيوية لا تحتمل التأخير. حتى تاريخه انقضت تسعة أشهر على المهلة الدستورية لإنجاز الموازنة وما زال مشروع الموازنة يراوح مكانه. بل إن هناك مرتكزات أساسية في المشروع لم تبتّ حتى الآن. فلم يحسم سعر الصرف الذي تستند إليه تقديرات الواردات والنفقات، ولم يتقرّر سعر الدولار الجمركي مع العلم أن رسوم الجمارك هي مصدر أساسي لتمويل نفقات الدولة، التي تخلو من النفقات الاستثمارية المولّدة للنموّ، وتقتصر على النفقات الجارية غير المجدية للقطاع العام.
ومن حقّنا أن نسأل أين هي خطّة التعافي المالي والاقتصادي التي يعوّل عليها لإعادة الودائع لأصحابها وإصلاح المالية العامّة وإعادة إطلاق الاقتصاد الوطني المنهار. فمنذ خطّة التعافي المثيرة للجدل التي أعلنتها حكومة الرئيس حسّان دياب وصولا إلى خطّة الحكومة الحالية، المستقيلة، والتي تبرّأ منها رئيس الحكومة تحت قبّة البرلمان، لم يتمّ تبنّي خطّة نهائية للتعافي والإنقاذ. ولا يستبعد أن تمرّ شهور طويلة قبل اتفاق الحكومة والبرلمان على طريقة لإستعادة الودائع وإنعاش الاقتصاد.
هذه أمثلة بارزة وسريعة على تعثّر القرارات الأساسية التي كان يجب اتّخاذها بسرعة قياسية، بموازاة السرعة القياسية لانهيار البلاد. ولا أمل بتصويب المسار واتّخاذ القرارات السريعة لأن المشكلة هي في تفكّك الدولة وتلاشي الحكم.
مقالات أخرى للكاتب الدولار "المصرفي" مجزرة مستمرة غسان العياش
التأخّر في إقرار قوانين الإصلاح المصرفي ليس عفويا، بل هو سياسة متعمّدة من قبل السلطات بقصد تمرير سنوات طويلة يجري خلالها تذويب الودائع المصرفية بالعملات الأجنبية. يتمّ التذويب عن طريق هرطقات التعاميم وبدعة "الدولار المصرفي" المخالفة للدستور والقانون والقواعد السليمة في إدارة الشأن المالي.
" أزمة لبنان ليست اقتصادية" غسان العياش
في لبنان قول شائع بأن البلاد تعاني من أزمة اقتصادية.
الثلاثاء 02 كانون الثاني 2024
عربة الصندوق قبل حصان النفط غسان العياش
كلما تفاقمت الأزمات الاقتصادية ونتائجها الاجتماعية تتأكّد الحقيقة الراسخة بأن هذه الأزمات هي سياسية في أسبابها وفي جوهرها، واقتصادية في مظهرها الخارجي فقط. التخبّط في عمل السلطة التشريعية لا تقلّ نتائجه السلبية عن الفوضى والفراغ وهدر الطاقات في أداء السلطة التنفيذية.
تمويه الحقيقة وتجهيل الفاعل غسان العياش
تميّز العقدان الأخيران من تاريخ لبنان بتوالي الأحداث المأساوية والانهيارات، رغم تماسك الأمن الداخلي والابتعاد عن العنف والحرب الأهلية. لكن ما طبع هذه السنوات الصعبة هو جهل اللبنانيين لأسباب هذه الظواهر والمسؤولين عنها، لأن الممسكين بالسلطة