نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 61

السبت 30 نيسان 2022

الإنتخابات الفرنسية رسائل في كلّ إتّجاه

من الصحافة اخترنا لكم

العميد الركن خالد حماده

إنّ أقسى التحوّلات التي عبّرت عنها الإنتخابات الفرنسية بل أشنعها هو تحوّل اليمين المتطرّف إلى تيار رئيس في فرنسا، هذا ما يمكن استخلاصه من الإستعراض الإنتخابي لمرشحة اليمين المتطرّف للرئاسة الفرنسية مارين لوبان. القوميّة الشرسة التي لم تفز أمام الرئيس إيمانويل ماكرون إنتزعت من خلال 41.5 % من أصوات الفرنسيين ــ وهو أمر غير مسبوق بالنسبة لها ــ إنتصاراً يُبنى عليه لتغيير وجه فرنسا. أصبحت سياسات السخط المناهضة للأجانب والنظام التي تتبناها لوبان أكثر رسوخاً من أي وقت مضى في النفس والفكر والمشهد السياسي في فرنسا.

لم يتبادر إلى ذهننا إنّ نسبة وازنة من الناخبين الفرنسيين ستؤمن يوماً أنّ فرنسا المتعدّدة الثقافات والأعراق، وجمهورية «الحرية، المساواة، الأخوّة» ستكون أكثر ثراءً وأماناً وأكثر «فرنسية» إذا كانت أقلّ إنفتاحاً على الأجانب والعالم الخارجي. هُزم جان ماري لوبان بنسبة 82٪ إلى 18٪ على يدْ جاك شيراك في عام 2002 وخسرت مارين بنسبة 66٪ إلى 34٪ أمام ماكرون في عام 2017. لقد قام الطقس الإنتخابي الفرنسي على اعتبار الإكتفاء باقتراع متدنٍ للعائلة المتطرّفة واجباً مدنياً ، بل أنّ هذا الإقتراع هو بمثابة تأكيد على المواجهة مع العنصرية وكراهية الأجانب والتمسّك بقيّم الجمهورية التي أُصيبت في الصميم هذه المرة.

لقد فشل ماكرون، الذي أصبح أول رئيس فرنسي منذ 20 عاماً يفوز بولاية ثانية، في تحقيق الهدف الذي حدّده لنفسه في بداية رئاسته قبل خمس سنوات. في خطاب الفوز تعهّد ماكرون بقطع الأرض من تحت قدميّ لوبان من خلال تهدئة غضب الناخبين الذي تتغذى عليه. قال: «سأفعل كلّ شيء في السنوات الخمس المقبلة كي لا يبقى سبب للتصويت لصالح المتطرفين».

ومع ذلك، فإنّ المتطرفين في فرنسا يقومون الآن بعمل أفضل من أي وقت مضى، حيث يجدون جماهير متناميّة ومتحمسّة لخطاب اليمين المتطرّف «نحن ضدهم». في حديث اليمين المتطرّف، «نحن» هم البيض والمسيحيين الغارقين في الهجرة، والذين أفقرتهم العولمة، وأرهبهم الأصوليون الإسلاميون، وهم الذين يستشعرون فقدان هويتهم الفرنسية أمام الثقافات الأخرى والقيّم المستوردة وهم غير المسموعين في بروكسل وباريس. والـ « هم» هم النخب والأجانب والمتمولين والإتّحاد الأوروبي والمسلمين و«النظام» وكلّ من يلقون باللوم عليهم والقائمة تطول. لقد أضحى السوق الإنتخابي متّسعاً للمتاجرة بهذه العناوين حيث قدّمت الإنتخابات الأخيرة العديد من نماذج وعناوين التطرّف للإختيار من بينها، وستكون الإنتخابات المقبلة في أوروبا بؤراً لمعارك بين الوسط السياسي القائم واليمين المتطرّف الصاعد، ولكن السؤال المشروع يبقى هو ما الذي أدّى إلى هذه الشعبية الجديدة للتطرّف في البلاد؟

لا بدّ من الإعتراف أنّ هناك أزمة هوية عميقة في أوروبا، وهناك أنواع مختلفة من المخاوف تغذي هذه الأزمة، ومنها حالة الحرب الدائمة في الشرق الأوسط والخوف من التطوّر الديموغرافي في إفريقيا والإضطرابات التكنولوجية الدائمة. إنتشار التطرّف توجّه ملموس في كلّ أوروبا وحول العالم سيبقى معنا لفترة طويلة، كما يبدز إنّه اتّجاه دائم بل سِمة ستواكب حياتنا السياسية وسيستغرق الأمر عقوداً.

لقد حاربت ألمانيا التطرّف منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من خلال مجموعة واسعة من الإجراءات: إستخدام الأجهزة الأمنية، تعزيز الديمقراطية، الحملات التعليمية، وحتى حظر الأحزاب والمنظّمات المتطرّفة. وتظهر الدراسات الإستقصائية رسوخ القيّم الليبرالية بين السكان، ومع ذلك فإن تصرفات أقليات صغيرة ولكن نشطة للغاية من المتطرفين اليمينيين تعتدي على المهاجرين واللاجئين والمجتمعات اليهودية والأشخاص الملوّنين. وعلى الرغم من الدعوات المنتظمة لاتّخاذ إجراءات أكثر صرامة فإن الخطر لا يزال قائماً. هذا بالإضافة أنّ هناك تقارير منتظمة عن وجود خلايا يمينية متطرّفة داخل الشرطة والجيش، كما أنّ أعضاء الجماعات المحظورة يعيدون التجمع ببساطة ، غالباً تحت الأرض، بالرغم من تعهدات النخبة السياسية الألمانية بأكملها تقريباً بمكافحة ذلك.

فهل يكمن سبب صعود اليمين المتطرّف في أوروبا وقبله صعود الجماعات الدينية المتطرّفة في العالم العربي في غياب اليسار الحقيقي الذي لا يمكن رؤيته حالياً في أي مكان، ولا يقدّم أي حلول لهذه المخاوف العميقة الجذور. وهل أضحى اليسار المتاح عاجزاً عن فهم المخاوف العميقة المتعلّقة بالعولمة والهجرة والهوية الوطنية وما إلى ذلك؟

لقد نجت فرنسا هذه المرة من صدمة سياسية وإجتماعية وإقتصادية. وصول لوبان كان سيعني مباشرةً تحلّل علاقات فرنسا بالإتّحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وألمانيا الجارة الأقرب مما كان يمكن أن يؤدي إلى زعزعة السلام في أوروبا، لا سيما في خضم الحرب الروسية في أوكرانيا. أما على المستوى الداخلي فإنّ مغامرتيّ لوبان في إعطاء المواطنين الفرنسيين الأفضلية المطلقة على سائر مواطني الإتّحاد الأوروبي في الوظائف والتقديمات والإسكان، والصدام مع الفرنسيين من أصول مشرقية وبالأخص المسلمين منهم تحت عنوان «مكافحة الإرهاب» كانتا كفيلتيْن بتغيير وجه فرنسا واستدعاء كلّ صنوف التطرّف إليها.

لقد خطت لوبان هذه المرة خطوة نحو الأمام على حساب قيّم الحمهورية الفرنسية، صحيح إنّ ذلك لم يكن ذلك كافياً للفوز لكن الوصول إلى السلطة بات أقرب من أي وقت مضى...

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات


الكاتب

العميد الركن خالد حماده


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك