نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 61

السبت 30 نيسان 2022

اعادة هيكلة القطاع المصرفي تحت رحمة السلطات السياسية وجمعية مصارف لبنان تتمسك بصمتها

مقال اقتصادي

د. محمد فحيلي

إتكال الحكومات المتعاقبة على أموال المودعين وعلى القطاع المصرفي اللبناني لتمويل العجز في الخزينة والدين العام بشقيه بالليرة اللبنانية والعملة الأجنبية عزز من موقع المصارف التجارية في المعادلة الإقتصادية المحلية، إضافة إلى أن فشل الحكومات المتعاقبة بدعم القطاع الخاص المنتج أوصلنا إلى مانحن عليه اليوم. منذ إنطلاقة ورشة إعادة إعمار لبنان بعد طي صفحة الحرب الأهلية، إنصبت كل مكونات القطاع الخاص، من أفراد ومؤسسات تجارية، والدولة اللبنانية على القطاع المصرفي للحصول على حاجاتها لتمويل الإنفاق الإستهلاكي والإستثماري. لهذه الأسباب لم يكن من الصعب تقبل وتفهم لجوء الدولة إلى المصرف المركزي لإدارة الإقتصاد في سنوات الأزمة المنصرمة.

يلعب القطاع المصرفي دوراً أساسياً في الإقتصاد الوطني حيث أن المصارف مهيمنة على النظام المالي للبلاد، بإعتبارها المموّل الأكبر، وقد يكون الأوحد، للأفراد والمؤسسات والعجز في المالية العامة. يخضع النشاط المصرفي بمجمله لقانون التجارة ولقانون النقد والتسليف، وفي الوقت الذي كان فيه مصرف لبنان يتحصن بهذه القوانين لإصدار التعميم تلو الآخر لإدارة الأزمة المالية-النقدية، كانت المصارف التجارية تضرب بعرض الحائط كل القوانين وتفرض ضوابط على السحوبات (نقدا و/أو تحويل إلى الخارج) من الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية، وفي الوقت ذاته تسارع إلى الإمتثال لأحكام تعاميم السلطة النقدية. يا لها من مفارقة أبهرت المودع والمراقب والمحلل!

إستعادة صحة وإستمرارية القطاع المصرفي في لبنان ضرورية لتوفير الظروف لإنطلاق عملية الإنقاذ لوقف الإنهيار الإقتصادي الحاد، ومن ثم يكون من الممكن العمل على إنعاش الإقتصاد وبدء إعادة الحياة لكل مكوانته، وعندها فقط تبدأ مرحلة التعافي والنمو الإقتصادي المستدام. وإنطلاقة هذه الورشة بمواكبة من صندوق النقد الدولي قد تعزز من إنتاجية الجهود الموظفة في هذا المسار.

بدعم من خبراء صندوق النقد الدولي، توصل في السابع من نيسان 2022 لبنان إلى اتفاقية على مستوى فريق عمل صندوق النقد الدولي (Staff-Level Agreement - SLA) من أجل تسهيل تمويل ممدد (Extended Fund Facility - EFF) لمدة أربع سنوات بما يعادل 3 مليار دولار أميركي. يهدف الإتفاق بعناوينه العريضة إلى:

• إعادة بناء الإقتصاد

• إستعادة العافية والإستدامة المالية

• تعزيز الحوكمة والشفافية

• إزالة العوائق التي تحول دون توفر ونمو فرص العمل

• زيادة الإنفاق على الأمان الاجتماعي وإعادة الحياة إلى مادمرته الأزمة الإقتصادية التي يعاني منها لبنان منذ أكثر من سنتين.

تدرك السلطة السياسية الحاجة إلى الشروع في الإصلاحات في أقرب وقت ممكن، ووافقت على إستكمال سلسلة من الإجراءات قبل إدراج ملف لبنان على جدول أعمال إجتماع مجلس إدارة صندوق النقد الدولي. ومن الإجراءات التي تخص القطاع المصرفي وتم التوافق عليها في مضمون الإتفاق المبدئي:

• موافقة مجلس الوزراء ومجلس النواب على إستراتيجية إعادة هيكلة المصارف، مع أخذ العناية لجهة صغار المودعين والحد من اللجوء إلى الموارد العامة. إعادة هيكلة المصارف وإنطلاق عملية ترميم الثقة وإعادة نشاط القطاع المصرفي إلى حالته الطبيعية هي أمور أساسية في دعم وتمكين لبنان في المراحلة الواجب المرور بها – الإنقاذ، والإنعاش، والتعافي، والنمو الإقتصادي – في طريقه للوصول إلى بر الأمان الإقتصادي والإجتماعي. طبيعة العمل في القطاع المصرفي وحجم القطاع يجب أن يعكس طبيعة وحجم النشاط الإقتصادي في البلد ولهذا السبب إعادة هيكلة القطاع المصرفي تواكب حركة الإقتصاد.

• الشروع في التقييم المهني والشفاف والموضوعي لكل مصرف على حدة من المصارف ال 14 الأكبر حجما في لبنان. مع التوصية على إجراء التقييم من قبل شركة دولية مرموقة. المطلوب والضروري بعد سنتين من التخبط في الأزمات هو تقييم لجميع المؤسسات المالية للتأكد من قدرتها على مواكبة إعادة الحياة إلى الإقتصاد في لبنان، وهذا هو من مهام المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف. كان من الأفضل الإبقاء والتمسك بهذا التكليف مع التأكيد على الشفافية والمهنية والموضوعية في إجراء التقييم.

• موافقة البرلمان على تعديل قانون السرية المصرفية ليتناغم مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد، وإزالة العوائق أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والإشراف عليه. التمسك بقانون السرية المصرفية بنسخته المتداولة اليوم هو لزم ما لم يلزم في ظل وجود القانون اللبناني 44/2015 وغيرها من إتفاقيات لتبادل المعلومات من أجل الإفصاح الضريبي (Common Reporting Standard -CRS، و Foreign Account Tax Compliance Act -FATCA)

• العمل على توحيد أسعار الصرف لمعاملات الحساب الجاري المصرح به، وهو أمر بالغ الأهمية لتعزيز النشاط الاقتصادي، وإستعادة المصداقية والجدوى الخارجية، وسيتم دعمه من خلال تطبيق ضوابط رسمية على رأس المال (قانون الكابيتال كنترول). تع دد أسعار الصرف جاء نتيجة أزمات إقتصادية ومالية ونقدية متتالية ومتعددة الجوانب وحل هذه الإزمات سوف يعيد الإنتظام إلى أسواق الصرف. أما هروب رؤوس الأموال جاء نتيجة فقدان الثقة بالنظام المالي، وإعادة النظام إلى علاقة المصارف بزبائنها والعمل الجدي على ترميم الثقة هي كافية لضبط الفلتان في حركة رأس المال. ألإصلاح يكون في التركيز على مسبباتها وليس على العوارض.

الحديث عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي إستنادا إلى الكتب وعلماء المال لن يجدي نفعا. إعادة الحياة إلى القطاع المصرفي تأتي مواكبة لإستعادة النشاط الإقتصادي - إستهلاكا وإستثمارا - في لبنان، وهو المدخل الأساسي لتوفير الظروف لسلسلة من المحطات تبدأ مع الإنقاذ والإنعاش والتعافي وتمكين النمو الإقتصادي المستدام. وهناك أربع محطات أساسية لكل منها ظروفها ومتطلباتها:

1. إنقاذ الكيان المصرفي اللبناني. الإنقاذ يدفعنا بإتجاه تنظيم العلاقة بين المصارف وعملائها لتيسير أمور الناس والتي تتلخص بتمويل فاتورة الإستهلاك للأفراد والعائلات وفاتورة المصاريف التشغيلية للمؤسسات التجارية لتفادي الإختناق الإقتصادي. وهناك كم من الفوائد في التخفيف من الإعتماد على الأوراق النقدية في عملية تسديد هذه الفواتير. وهذا يتطلب مراجعة موضوعية ودقيقة لتعاميم مصرف لبنان التي يسرت وسهلت السحوبات الإستثنائية من الحسابات المصرفية سواء كانت مكونة باللعملة الأجنبية و/أو بالليرة اللبنانية. هذه التعاميم تشرع الإفراط في الإعتماد على الأوراق النقدية لأنها ولدت من رحم إنعدام الثقة في القطاع المصرفي. وهذا يجعلها من أحد العوائق الأساسية في إعادة الحياة إلى القطاع المصرفي. كل ماحققته هذه التعاميم هو تفريغ المصارف من الودائع والمودعين. من المبكر الحديث عن إعادة الهيكلة، التي تفرض اللجوء إلى الدمج والإستحواز، لأن متطلباتها لجهة إستقطاب وضخ رأسمال جديد صعبة المنال في ظل غياب الثقة.

2. إنعاش المؤسسات المصرفية. الإنعاش يتطلب ترميم الثقة وإعادة النشاط إلى المؤسسات المصرفية. يجب أن تكون المصداقية والشفافية وفتح خطوط التواصل بين المصارف وعملائها الركائز الأساسية لهذه المرحلة. لا يخفي على أحد بأن العديد من الإجراءات والضوابط التي أدخلتها وفرضتها المصارف في السنوات الإثنين الماضية سقطت فجأة على عملائها وأتت مخالفة للقوانين التي ترعى العلاقة بينها وبين زبائنها وأسقطت بقوة مصداقية المصارف بعد ترويجها لضرورة إعرف حقوقك وواجباتك! هذه المساعي ضرورية لتحضير الأرضية للعودة إلى أحكام التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 154 - "إجراءات استثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان" - والسهر على حسن الإمتثال لكل مواده. لم يكن عدم متابعة حسن إمتثال المصارف لأحكام هذا التعميم تقصيرا من لجنة الرقابة على المصارف، بل السبب الأساسي هو عدم توفر المناخ للإمتثال لأحكام هذا التعميم. الوضع الإقتصادي والمالي والنقدي في لبنان هو أشبه برمال متحركة تغرق فيها المصارف مع كل حركة. الإنقاذ والإنعاش هم أساسيتين في تأمين الجهوزية المصرفية لإعادة الهيكلة.

3. إعادة العافية للقطاع المصرفي. تعافي القطاع المصرفي يوفر المناخ للحديث عن الخلل والفشل بأداء بعض المؤسسات المصرفية والحديث عن كيفية المعالجة من دون تداعيات سلبية قد تزيد الأمور تعقيدا. سوف تكون إستعادة الثقة وتوفر رأس المال ضرورية لإنطلاق الحديث عن مصارف مفلسة ويجب تصفيتها، وأخرى بين هالكة ويجب إعادة هيكلتها ودعمها من جراء ضخ رأسمال جديد أو دمجها مع مصارف أخرى، ومن المؤكد أنه هناك مصارف متمكنة من خدمة الإقتصاد. إستقطاب رأسمال جديد يساعد في إعادة رسملة المصارف وتأمين جهوزيتها لمواكبة الإصلاح والنهضة الإقتصادية. متابعة إمتثال المصارف لأحكام التعميم 154 وأخذ الإجراءات اللازمة وفق أحكام هذا التعميم تصبح ضرورية في هذه المرحلة، مع مواكبة جدية لإستقطاب رأسمال جديد من الخارج والعمل، بما توفر، على إعادة رسملة المصرف المركزي.

4. تطور القطاع المصرفي والنمو الإقتصادي هم وجهان لعملة واحدة. تطور الخدمات المصرفية يجب أن يعكس طبيعة النشاط الإقتصادي في البلد. بعد سنتين على التدهور الإقتصادي الحاد أصبحنا اليوم على مصارف من دون خدمات مصرفية التي بأغلبها إنحصرت بالسحوبات الإستثنائية. إذا إنتقلنا وتقدمنا بنجاح في المراحل الثلاثة الأول - إنقاذ، إنعاش، وعافية – هذا يعني بأننا نجحنا بتأمين المناخ المطلوب للتطور المصرفي والنمو الإقتصادي ويجب ترك الأمور في هذه المرحلة على طبيعتها مع متابعة المراقبة والشفافية والموضوعية في التعرف على ىالمشاكل ومقاربة الحلول.

الحديث عن إعادة هيكلة المصارف، المكون الأساسي في القطاع الخاص اللبناني، هو ضروري وأساسي لأنه لا إمكانية لوجود إقتصاد من دون قطاع مصرفي متمكن. إحالة مشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي إلى السلطة التنفيذية لإقراره والسلطة التشريعية لتوفير الإطار الدستوري له هو كلام باطل أريد به الحق. رغم كل القوانين السارية المفعول توقفت المصارف عن إلتزاماتها إتجاه المودعين وقابلت كل طلبات مودعيها المشروعة بالرفض المطلق، بسبب الأداء الغير مسؤول للسلطة السياسية الحاكمة. العلاقة التعاقدية هي بين المودع والمصرف وليس بينة وبين الدولة أو بينه وبين مصرف لبنان. لهذا السبب من الخطأ اللجوء إلى القوانين لترميم وإستعادة الثقة بالمصارف. إضافة إلى ذلك، شرط أساسي في هذا المسار الدقيق والأساسي هو الفصل بين المصرف (المؤسسة) والمصرفي (الشخص: مساهم، عضو مجلس إدارة، ...) والمطلوب في كل المراحل الرامية إلى الإنقاذ والإنعاش والعافية والتطورهو حماية القطاع المصرفي وليس مصرف معين أو مصرفي. قد يكون اللجوء إلى مساءلة المصرفيين ومحاسبتهم خطوة ضرورية في مسار ترميم الثقة.

الحديث عن إعادة هيكلة المصارف بالتركيز على حجم الخسائر و/أو الفجوة وكيفية توزيعها يسقط أهم المراحل في إستعادة العافية للقطاع المصرفي وهي ترميم الثقة، المرحلة التي تعتمد بالجزء الأكبر منها على حسن التواصل بين المصارف وعملائها وليس على توفر رأس المال الداعم. "حجم الخسائر و/أو الفجوة ليس بثابت، يتغير مع المتغيرات التي تواكب عملية الإنقاذ والإنعاش والعافية. ويجب أن يكون توزيع الخسائر على سنوات إستحقاقها التي تمتد إلى سنة ال 2037.

أخيرا، الحديث عن إعادة هيكلة المصارف ووصله عضويا بقانون الكابيتال كنترول والتدقيق الجنائي وتوحيد سعر الصرف هو مسار يضع العربة قبل الحصان ولن يوصلنا إلى مانحن بحاجة له لإستعادة الحياة الإقتصادية بحدها الأدنى. قانون الكابيتال كنترول الذي كان ضرورة في نهاية ال 2019 لم يعد يخدم الأهمية ذاتها سنتين بعد أن نزف الإقتصاد الدماء في عروقه، وأفرغت الحسابات المصرفية من السيولة لمصلحة الخزنات الحديدية في المنازل. يجب إستبدال "كنترول" بإنتاج قواعد إشتباك، بين المصرف والمودع، مستحدثة تعكس طبيعة المرحلة وضروراتها. وفي المقلب الآخر، التدقيق الجنائي شأن السلطات النقدية والمالية وسلوكياتها ويجب فصلها عن القطاع المصرفي وممارساته. العمليات المصرفية موثقة ومدعومة بمستندات وتخضع لمراحل عديدة ومحطات متعددة من الرقابة الداخلية والخارجية. وسنويا تلجأ المصارف إلى إنتاج ميزانية لدراستها وتقييم الأداء وإنتاج موازنة. وأخيرا، أحادية سعر الصرف سقطت بسبب سياسة دعم لسعر صرف غير منطقي (1507 ليرة للدولار الواحد)، ووضع ضوابط غير منطقية على حرية التبادل في سوق القطع، وتشريع عدة أسعار للصرف من قبل السلطة النقدية كان ضروري للتخفيف من حدة الأزمة الإقتصادية على أصحاب الدخل المحدود. وهذا يؤكد بأنه تعدد سعر الصرف لم يكن نتيجة أداء المصارف، وتوحيد سعر الصرف أو تحريره لن يبدأ عندها ايضا.


الكاتب

د. محمد فحيلي

مقالات أخرى للكاتب

العدد 57

الخميس 30 كانون الأول 2021

مع إطلالة كل تعميم يغرق المواطن اللبناني في هوة الفقر أكثر وأكثر . . . كفى!

د. محمد فحيلي


لم يكن التعميم الأساسي ١٦١ لمصرف لبنان مفاجأة لأن إجتماع سعادة الحاكم مع رئيس مجلس الوزراء بحضور وزير المال في 14 من الشهر الجاري قد جهز الأرضية لذلك، ولكن:


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك