نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 52

الثلاثاء 03 آب 2021

لبنان والفاتيكان والطرق المسدودة

مقال سياسي

د. محمد السماك

هل تستعصي الأزمة في لبنان على الحلّ ؟

حاولت جامعة الدول العربية وفشلت ..

حاولت الأمم المتحدة وانكفأت ..

حاولت الولايات المتحدة عبر العقوبات وتراجعت ..

حاول الاتحاد الأوروبي مع فرنسا ومن دونها بالترغيب أحياناً وبالتهديد أحياناً أخرى دون جدوى ..

حاول الاتحاد الروسي عن طريق الاسترضاء فلم يرضِ أحداً ..

وكانت أخيراً محاولة الفاتيكان الذي دعا الى لقاء صلاة وتأمل . ولكن الممسكين بتلابيب الأزمة في لبنان لم يصلّوا .. ولم يتأملوا . فكانت إدانة البابا لهم .

وكانت إدانة سابقة في تاريخ العلاقات بين الفاتيكان ولبنان ، بل بين الفاتيكان وأي دولة في العالم .

لم يسمِّ البابا فرنسيس في كلمته التي اختتم بها لقاء الكرادلة في الأول من تموز شخصاً أو حزباً أو مسؤولاً . أدان السلطة اللبنانية أو المتسلطين على لبنان ، فانضمّ بذلك ليس فقط الى المراجع الدينية المسيحية (الكاثوليكة والمارونية والأرثوذكسية والانجيلية) ، ولكنه انضمّ أيضاً الى الرأي العام اللبناني بكل طوائفه ومكوّناته المتعددة . مع ذلك لم يحاول أحد من أهل السلطة مراجعة حساباته ، أو إعادة النظر في مواقفه أو حتى مجرد الاستماع الى نصائح وتحذيرات الجهات الدولية والعربية التي حذّرت من خطورة الإنهيار المتسارع . وهذا يعني أن أهل السلطة لا يزالون يعتقدون انهم ولبنان صنوان ، وبالتالي فان إنقاذ سلطتهم هو المدخل لإنقاذ لبنان ، بل ان إنقاذ سلطتهم هو إنقاذ للبنان ، وهنا تكمن العقدة .

بالنسبة لمنظمة الأمم المتحدة ولجامعة الدول العربية فان لبنان هو دولة كغيره من الدول الأعضاء. ولكن بالنسبة للفاتيكان فان لبنان ليس مجرد زائد واحد الى عدد الدول العربية ، ولكنه دولة استثنائية . وتقوم هذه الاستثنائية على الدور الذي يلقيه الفاتيكان على عاتق هذه الدولة . وهو دور ثقافي في الدرجة الأولى ويتمثل في تقديم نموذج يُحتذى للعيش المشترك بين جماعات دينية ومذهبية متعددة .

يعني ذلك ان لبنان بصيغته الاستثنائية في المنطقة العربية ليس مهماً لذاته ، ولكنه مهم لدوره المتداخل مع ذاته . وهو تداخل مباشر وعميق أيضاً مع تطلعات الفاتيكان الى العالم العربي عامة، والى واقع ومستقبل المسيحيين العرب .

ومنذ عام 1965 عندما صدرت عن المجمع الفاتيكاني الثاني وثيقة نوسترا إيتاتي Nostra Aetate التي فتحت صفحة اعتراف وودّ وتعاون مع الاسلام ومع المسلمين ، راهن الفاتيكان على الدور اللبناني في حمل هذه الرسالة الجديدة بحكم تكوينه وموقعه ودوره . ومن هنا جاءت مقولة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بأن لبنان هو أكثر من دولة ، انه رسالة .

ولكن عندما يتداعى لبنان الدولة ، ماذا يتبقى من الرسالة ؟

من أجل ذلك فان من الطبيعي أن يبذل الفاتيكان كل جهد ومسعى لإنقاذ لبنان الرسالة .. فهل يستطيع ؟

كان قدر كبير من الإجابة على هذا السؤال يتوقف على السلطة اللبنانية . الآن تغيّر الوضع . المجتمع الدولي يقفز من فوق هذه السلطة في تعامله مع لبنان .. وهو يحمّلها نسبة مرتفعة جداً من مسؤوليات التدهور والفشل والإنهيار الذي تعاني منه الدولة .. الرسالة .

تكرّس ذلك في خطاب البابا يوم الأول من تموز أثناء لقاء البطاركة . فاللغة والمنطق والوضوح الذي اتسم به خطاب البابا فرنسيس في ختام اجتماع اليوم الواحد ، يتماهى مع اللغة والمنطق والوضوح الذي اتسمت به خطابات ومواعظ البطريرك بشارة الراعي ، وكأنهما ينهلان من معين واحد . أو كأنهما ينظران الى ما يجري في لبنان بعين واحدة .

لقد ترفّع البابا عن تسمية أي شخص ، ولكن كلامه الإتهامي كان واحداً . فهو لم يستثنِ أي مسؤول . تحدث عنهم بالجمع . وكان حديثه اتهامياً . دعاهم بالجمع الى الترفع عن مصالحهم الخاصة ، وفي ذلك إدانة غير مباشرة لهم بأنهم غارقون في وحول مصالحهم الخاصة التي دعاهم الى الترفّع عنها .

من خلال ذلك يمكن القول انه كان من الحكمة أن تقتصر الدعوة الى اجتماع الأول من تموز على القيادات الروحية المسيحية وحدها . وكان من الحكمة أيضاً أن يتواصل البطريرك الراعي هاتفياً مع المرجعيات الروحية الاسلامية وأن يزورها البطريرك يوحنا اليازجي قبل سفرهما الى الفاتيكان ، ليؤكدا على الثوابت الوطنية التي تجمع المسلمين والمسيحيين ، والتي يحرص الفاتيكان على تأصيلها وتعزيزها ، إلتزاماً بما نصّت عليه وثيقة الارشاد الرسولي ، والتزاماً بالمبادئ التي أقرّها قبل ذلك المجمّع الفاتيكاني الثاني (1965) .

لقد أكد لقاء الفاتيكان على ان المجتمع اللبناني أسلم من الدولة اللبنانية . في المجتمع إيمان بالعيش المشترك وتضحية متبادلة من أجل تأكيد صدقيته . وفي الدولة سلطة فاسدة تضحي بالعيش المشترك من أجل تأكيد مصالحها . وهنا رفع البابا صوته عالياً أن "كفى" .!!

يبقى السؤال المؤلم . وهو هل ان لبنان الذي يحترم ما نصّت عليه وثيقة الإرشاد الرسولي (الفقرة 93) ، مؤهل اليوم للإلتزام بنصائح بابا الأخوة الإنسانية ؟

إن قراءة ما بين سطور كلمة البابا تشير الى ان الفاتيكان الذي ضاق ذرعاً بفساد وفشل السلطة السياسية ، لن يترك هذه السلطة ترتكب جريمة الإجهاز على لبنان الرسالة .

يدرك الفاتيكان الدولة جيداً أمرين اساسيين : الأمر الأول هو ان اللعبة السياسية في لبنان هي انعكاس مباشر لصراع القوى الخارجية ، الاقليمية منها والدولية . والأمر الثاني هو ان آراء المواطنين ووجهات نظرهم ليست هي التي تقرر مسار الأمور وتطور الاحداث . إن الذي يقرّر هو من يملك القوة العسكرية . ولأن الدولة في لبنان لا تحتكر امتلاك السلاح واستخدامه، فان التعامل مع هذه الاحداث ، ومع تطوراتها ، يخرج عن قدرتها على التحكم بمسارها وبمصيرها .

تبقى القوة المعنوية التي كان الفاتيكان دائماً يلجأ اليها في الأوقات الحرجة ، وهي القوة التي يحاول اليوم أن يشهرها في وجه معطلي الوفاق الوطني ومدمري صيغة العيش المشترك .

إن نجاح الفاتيكان حيث فشل الآخرون هو بمثابة معجزة . والفاتيكان كمرجعية دينية يؤمن بالمعجزات وينصّب أبطالها مكرمين وقدّيسين !! .


الكاتب

د. محمد السماك


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك