نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 49

الثلاثاء 04 أيار 2021

وطن نهائي يتجاوز الانتحارية والطغيان

من الصحافة اخترنا لكم

ابراهيم شمس الدين

لبنان وطن. والوطن يقوم على ثلاثة أقانيم، ثلاث قواعد: الشعب والأرض والدولة.

الشعب اللبناني شعب حقيقي وليس تجمعاً لشعوب. وهو ليس شعباً مصطنعاً أو مفترضاً ولا مستجلَباً، بل هو شعب منحوت، منحوت بمعنى أنّه أصيل، وأنّه من هذا التراب ومن هذه الأرض.

والأرض هي لبنان المعروف والمعترف به في حدوده الدولية، والتي وإن كانت في بعض نواحيها محتلة أو مخترقة أو غير مرسَّمة، إلا أن اللبنانيين يعرفون حدودهم. الشّعب اللبناني يعرف حدوده، وهو يريد من الآخرين أن يعرفوا حدودهم معه و يلتزموا حدودهم عنده.

والتاريخ المشترك، تاريخ الشعب، تاريخ الوطن هو نسيج العلاقة الطويلة والراسخة والثابتة والمنحوتة بين الشعب والأرض. هو تاريخ واحدٌ فيه قصصٌ متعدّدة ومتنوّعة. وهذا التنّوعُ في حركة التاريخ لمختلف الأرض اللبنانية لا يتنافى أبداً مع وحدة التاريخ الزمني، و لا مع التاريخ الحديث للوطن اللبناني في تأسيسه ومن ثم استقلاله وحتى اليوم، وحتى الغد وما بعده أيضاً.

ومن هنا المقولة المُؤسِّسةُ مجدداً للبنان، المقولة الثابتة حَفراً، أن لبنانَ وطنٌ نهائيٌّ لجميع أبنائه. هذه الحقيقة المؤسِّسة اللبنانية التي تساوي بين جميع اللبنانيين باعتبارهم أخوة في المواطنة، هي أيضاً تساوي فيما بينهم باعتبار نسبتهم إلى وطن واحد، إلى أب انتمائي واحد. واتخذت هاتان النسبتان الموحِّدتان صفةَ النهائية والجزم والحسم في النسبة والانتساب: إن هذا الأمر، نهائية الوطن، قد تمّ وحُسم، لا جِدالَ فيه ولا تردّد.

الكلّ ينتمي إلى هذا الواحد، كل الابناء، كل تنوعات البنوّة. وهذا الواحد هو لبنان الوطن الذي لا بديل له، حتى من الحاملين جنسية أخرى - ولا أقول جنسية ثانية - لأن "اللبنانية" هي مواطَنةٌ وانتماء. والحاجة إلى جنسية أخرى، أو اعتقادُ الحاجة إليها، ليس ناتجاً من خللٍ في نفس الوطن أو عدم اكتمالٍ فيه، بل هي ناتجة عن خلل في موضع آخر، أصِلُ إليه لاحقاً.

و هذه المقولة، مقولة إنّ لبنان هو وطن نهائي لجميع أبنائه، والتي صارت ثابتةً في مقدمة الدستور اللبناني، هي من نتاج الفكر السياسي اللبناني الشيعي الحديث والصادق، تحديداً عبر الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد موسى الصدر. و دعوة الشيخ شمس الدين، الشهيرة والبصيرة في الوصايا، دَعْوتُه الشيعةَ للإندماج في أوطانهم، هي خيرُ تطبيق وتصديق لحقيقة الوطن اللبناني ولنهائيّة هذا الوطن بالنسبة إلى المسلمين عامّة وإلى الشيعة منهم خاصّة.

لا يوجدُ للشيعة وطن آخر. واللبنانيون الشيعة لا ينتمون إلى "شيعيّة عالمية"، و ماهيّتُهم لا يُبحثُ عنها في تنظيمٍ عابر للأوطان، ولا تُلملِمُها منظومةٌ فوق - وطنيّة. هم لبنانيون ابتداءً و لبنانيون انتهاءً، و لبنانيون حياةً و وفاةً. ومهما يدّعي البعض، من دول أو غيرها، أنهم دولة الشيعة في العالم فهذا غير صحيح. لا يوجد شيء اسمه "دولة شيعة"، إنما يوجد شيعةٌ في دول وطنية متعددة ومتنوعة، شيعةٌ مواطنون في أوطانهم. والشيعة اللبنانيون هم مواطنون لبنانيون وليسوا مستوطنين مؤقتين، وليسوا مندوبين لأيّة دولة أخرى.

القاعدة الثالثة التي يقوم عليها الوطن، بعد الشعب والأرض، هي الدولة.

الدولةُ هي التي تحفظُ الأرضَ للشعب وهي التي تَحْميه في أرضه. الدولةُ هي التعبير عن إرادة الشعب في البقاء على أرضه، وهي اعترافُه ووثيقتُه في أنه ينتمي إلى أرضه نهائياً، وبالتالي هو يُنشِئ عهداً على نفسه وبين أفراده، بما هم أبناءٌ في وطن واحد، في أن يكونوا مواطنين وليس مستوطنين. وبالتالي، لا مواطنةَ بدون دولة.

والحاجةُ إلى جنسية أخرى ليست ناتجةً عن خللٍ في الوطن أو في نهائيّته، إنّما هي ناتجة عن خلل في الدولة التي لا تحفظُ المواطنةَ ولا تُنمّيها. المواطنة هي انتماء وليست جنسية. ولهذا يوجد مواطنون لبنانيون بدون جنسية لبنانية كما يوجد مجنّسون لبنانيون غيرُ مواطنين.

الجنسيّة هي انتماء إلى دولة، والمواطنة هي انتماء إلى وطن فيه دولة صحيحة تخدمه و تحميه.

الوطنُ ليس قطعةَ أرضٍ فقط، وليس سهولاً وجبالاً و شَطّاً فقط، وليس "قطعة سما" فقط. الوطنُ هو رغيفٌ حلال وفرصةُ عملٍ شريف ومستشفى ومدرسة ومساحةُ لعبٍ آمنة للأولاد ورِزقٌ محفوظ وطمأنينةٌ تسمح للمستقبل أن يأتي وينمو.

وهذه كُلُّها من مهام الدولة وواجباتِها. الدولة الحرة المستقلة، (وهذه عادةً يكون حكّامُها رجالَ دولة، أحراراً في نفوسِهم مستقلين عن الخارج، ومربوطين الى الدستور خاضعين للقانون في الداخل). الدولة ذات النظام الديمقراطي الصحيح الذي يسمح للشعب أن يديرَ شؤونَه وحياتَه بواسطتها.

الدولة التي تحمي الشعب هي التي تحفظُ تنوعَه وتحفظُ حريتَه في التنوع، وهي في نفس الوقت تحفظُ وحدتَه في مجتمع سياسي وطني واحد.

هكذا يكون التنوعُ في الوحدة. مجتمع سياسي متوحدٌ في وطنه ومتوحدٌ خلف دولته، وهو في نفس الوقت متنوّع في ذاته وحرٌّ في تنوعّه وثقافته وإيمانه.

المجتمع السياسي اللبناني الواحد فيه مسلمون ومسيحيون معاً، والتنوع اللبناني فيه مسيحيون ومسلمون معاً أيضاً. إضعافُ وحدة المجتمع أو الاجتماع السياسي يدفعُ الهويةَ الدينية أو الثقافية الخاصة إلى الواجهة لتنافسَ الهويةَ الوطنية الموحِّدة وتُنكّلَ بها فتحدثَ اضطراباً إسلامياً مسيحياً. وهذه مسؤولية الدولة.

و الإمعانُ في إضعاف وحدة المجتمع السياسي يُحدثُ اضطراباً أعمقَ، اضطراباً اسلامياً ومَرَضاً سُنّياً- شيعياً. وهذه أيضاً مسؤولية الدولة.

إدارةُ التنوع وحفظُه وحراستُه هي مسؤولية الدولة ايضاً. وحفظ التنوع لا يتم إلاّ في دولة ديمقراطية. ولهذا فإن مقولتي الدائمة والثابتة أن لبنان لا يقوم فقط على ثنائية مسيحية إسلامية، بل هو يقوم على ثلاثية واجبة مترابطة مسيحية - إسلامية - ديمقراطية.

 بدون ديمقراطية تصبحُ الاسلاميةُ استبداديةً وتصبحُ المسيحيةُ أقليةً خائفةً أو مُخوَّفة تبحث عن الأمان في استبداد الآخرين، تبيعُهم حريةَ أبنائِها، فتصير حياتُها لَحْسَ مِبردٍ طِوالَ وجودها المُستلْحَق.

وهذا ليس لبنان!

لبنان وطن حقيقي. هو ليس كذبة تاريخية ولا مؤامرة امبريالية ولا صدفة جغرافية. لبنان وطن حقيقي صنعه أبناؤه واختاروه وانتموا إليه انتماءً نهائياً.

ولبنان ليس ملجأً. يجب الخروج من أطروحة الملجأ. الملجأُ ليس وطناً، الملجأ ليس فيه مواطنة ومواطنون، وليس فيه رغيف حلال ورزق شريف وملعب آمن للأولاد. ليس في الملجأ سماء بل سقف قد ينهار في أي يوم. الملجأ ليس فيه بيوت مشرقة بل زوايا معتمة فيها أكوام من الناس، كلٌّ ينتحي بزاويته خائفاً من أكوام الزوايا الأخرى. في زوايا الملجأ تنعدمُ المواطَنةُ وترخُصُ الجنسية وتُنْتَهكُ الكرامةُ البشرية.

وهذه أيضاً مسؤولية الدولة وواجبها: أن تحفظَ وطناً لا أن تحفرَ حفرةً تضيعُ هي فيها بين الأكوام. الوطن بدون دولة يكون حفرةَ ملجأ، والملجأ مع الفوضى يصبحُ مَنْهَبةً و مَقتلاً.

ليس لبنان ملجأً بل هو وطن، وطن الجميع. هو ليس ملجأً فيه أكوامُ أقليات بل مواطنون أحرار. المسيحيون ليسوا أقلية والشيعة ليسوا أقلية والدروز ليسوا أقلية والعلويون ليسوا أقلية والسنة قطعاً ليسوا أقلية، الكل ينتمي إلى أكثرية واحدة كبرى هي الأكثرية اللبنانية.

إن المسيحيةَ هي بنتُ هذا المشرق، أصيلةً وكريمة، وهي من بيت أبيها وليست لاجئةً فيه. والمسيحيون هم جوهرةٌ في هذا المشرق وبعضٌ من إشراقه، وليسوا أبداً قِطعةً من عَتَمتِه الكبيرة.

إن أطروحة الأقليات هي انتحارٌ للمسيحيين، وهي فتنةٌ وبلاءٌ للمسلمين، إذ أنها تجعلُ من الأوّلينَ ضحايا ومن التالين طُغاة.


الكاتب

ابراهيم شمس الدين


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك