نشرة فصلية إعلامية تصدر عن رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
"بعضهم يستجدي الألم و يمتّع نفسه بالشقاء لكي يصل...
و لكن طريق الفرح هي أكمل و أجدى... كل شيء هو فرح... هو فرح

العدد 43

الثلاثاء 03 تشرين الثاني 2020

مقال اقتصادي: الأزمة الاقتصادية تراوح بين الكيديات والمسكنات

بهيج بو غانم

ظنت القوى السياسية التي كانت وراء المجيء بحكومة "الاختصاصيين؟" برئاسة حسان دياب، أو ربما خيل لها، أن هذه الحكومة قادرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية والمصرفية والاجتماعية التي عصفت بالبلاد منذ أواخر الفصل الرابع من العام 2019، وتفاقمت خلال الاحتجاجات الشعبية وليس بسببها. وحسب الذين شكلوا هذه الحكومة البائسة والهجينة إنها ستتمكن من "شيل الزير من البير" كما يقال.

"إنجازات" هذه الحكومة منذ نيلها الثقة أوائل العام حتى استقالتها بُعيد كارثة مرفأ بيروت خيبت الآمال فأضافت إلى الأزمة تعقيدات أشد صعوبة، وألقت عليها أكلافاً إضافية باهظة. ولا يغير في هذا الواقع ما أعلنه حسان دياب ذات يوم أن حكومته أنجزت 97 في المئة مما ورد في البيان الوزاري، الأمر الذي أثار ولا يزال السخرية والاستهزاء.

والسؤال الواجب طرحه هو: لماذا هذا الفشل؟ولماذا لم يتم اتخاذ ولو خطوة واحدة، من أجل إنقاذ الوضع الاقتصادي الذي كان يتردى يوماً بعد يوم وعلى مسمع ومرأى الحكومة ومن كان وراء قيامها؟

وصفات مسكنات

إن العامل الأساسي لفشل الحكم والحكومة في إقرار خطة إنقاذية، يعود إلى أسلوب المسكنات الذي انتهجته الحكومة في محاولة لشراء الوقت حيناً ولاعتماد حلول "شعبوبة" ترضي الناس ولبعض الوقت، وسرعان ما تتبخر نتائجها بعد حين، فتعود المحاولة من جديد لوصفة مسكنات جديدة.

والواقع أن كل الحلول التي تم اعتمادها على الأصعدة النقدية والمصرفية والاقتصادية سواء الصادرة عن الحكومة أو البنك المركزي، باءت كلها بالفشل، لأنه لم تعد الحلول التقنية تجدي نفعاً لأزمة عميقة متراكمة أوصلت البلاد إلى الانهيار.

إن اجتناب الحلول الجذرية والاكتفاء بـ "البانادول" إنما ناتج من اعتبارات عدة لعل أهمها:

1- الكيديات الداخلية والتجاذبات بين القوى السياسية المعنية في صراع المحاصصات سواء في التعيينات الإدارية أو في إقرار المشاريع. ولعل هذه الكيديات كانت، دون سواها، وراء قرار تعليق دفع سندات الدين سواء "اليوروبوندز" أو سندات الخزينة.

2- العداء الطبيعي بين الطبقة السياسية الحاكمة وبين اي نهج إصلاحي أو حقيقي يتمثل بورشة إصلاح اقتصادي – مالي – إداري – اجتماعي. فأي إصلاح حقيقي يؤدي بطبيعته إلى تقليص نفوذ السياسيين والمساس بمصالحهم الاقتصادية سواء لتغذية جيوبهم وثرواتهم أو لتعزيز الزبائنية واكتساب ولاء التابعين لهم.

3- عدم الرغبة وتالياً القدرة لدى المسؤولين على صوغ خطة إنقاذية متكاملة تنطلق من رواية واضحة، لأن ذلك لا يتم إلا بعد قراءة موضوعية للأسباب المتراكمة التي أدت إلى حصول الأزمة. ومعرفة الأسباب الحقيقية للأزمة يمس مصالح الطبقة السياسية حاضراً ومستقبلاً. ومن هنا كثرت في الاشهر الماضية الاتهامات المتبادلة بين المسؤولين حيث كل طرف يحاول إلقاء المسؤولية على سواه وتبرئة نفسه من كل ما حصل.

4- إلى ذلك، اصطدمت الحلول الجذرية بالتناقضات الجيوسياسية والسياسية والايديولوجية حول تحديد هوية لبنان، وحول دوره وأي نظام اقتصادي له. وبرزت هذه التناقضات جلياً في مقاربة الشأنين المالي والنقدي عند وضع الخطة الإنقاذية، الأمر الذي أدى إلى نشوء خلاف بين الحكومة ومجلس النواب طاول كيفية المقاربة كما طاول الأرقام، ما أدى إلى تعطيل الحوار مع صندوق النقد الدولي الذي كان ولا يزال المفتاح الأساسي والوحيد لأي معالجة جذرية، وسيبقى الصندوق هو الملاذ الوحيد رغم كل المحاولات التي تسعى للحيلولة دون التوصل إلى اتفاق معه.

سلسلة المسكنات

وقد يكون من الصعوبة استعراض إجراءات المسكنات التي تم اتخاذها منذ مطلع العام، إلا أنه يجدر التوقف عند أبرزها:

أولاً: المحاولات اليائسة التي حاولت السلطة النقدية القيام بها، استجابة لقرارات حكومية شعبوية من أجل خفض سعر صرف الدولار الذي وصل إلى عتبة الـ 9000 ليرة بعد صعود متدرج. وتمت لهذه الغاية محاولات شتى سواء قبل قيام المنصة الإلكترونية أو بعدها، سواء من خلال قرار مصرف لبنان التدخل في سوق القطع وطرح كميات من الدولارات، وهذا القرار استمر إلى أقل من ثلاث أسابيع. وكل ذلك لم يجد نفعاً ولم يمنع استمرار السوق السوداء الحرة، علماً أن السوق الأخرى المستندة إلى المنصة الإلكترونية (على أساس 3900 ليرة للدولار) لم تتمكن من لجم الطلب على الدولار في السوق السوداء.

واستهدفت هذه المسكنات محاولة امتصاص الاحتجاجات والتذمر الشعبي من انخفاض سعر الليرة وتدهور القدرة الشرائية وتزايد معدلات التضخم. وكل ذلك لم يسهم في تحقيق استقرار نقدي على الأقل لأن كل هذه الإجراءات أغفلت عاملي العرض والطلب كما أغفلت عامل فقذان الثقة بالليرة ولجوء الناس إلى تخزين ما أمكن من مدخرات في المنازل سواء كان بالدولار أم بالليرة. إن المعالجات النقدية لا يمكن أن تجدي نفعاً في غياب السياسيات المالية، فأي تدبير نقدي له تأثيره السلبي إذ ينفع من ناحية ويضر من ناحية أخرى.

ثانياً: وبالأسلوب نفسه، لجأت الحكومة وبالتنسيق مع مصرف لبنان إل اعتماد سياسة دعم لعدد من السلع. بدأت أولاً بدعم استيراد المحروقات والقمح والأدوية على أساس 1520 ليرة للدولار يخصصها مصرف لبنان وفقاً لشروط محددة. نجحت هذه السياسة في تثبيت أسعار الأدوية إلى حد بعيد وكذلك المحروقات التي استنزفت احتياطي مصرف لبنان بسبب عمليات التهريب المحمية من السياسيين.

إلا أنه عندما طاول الدعم لائحة طويلة من السلع الغذائية والاستهلاكية دبت الفوضى وكثر التحايل في ظل جشع التجار وضعف البنية الإدارية لوزارة الاقتصاد. علماً أن كل سياسات الدعم السابقة التي اعتمدها لبنان لم تصل إلى مستحقيها وبالتالي استفادت منها كل فئات الدخل مع الإشارة إلى أن عمليات التهريب إلى الخارج تعطل مفعول أي دعم.

وعملياً، فإن الأسعار المدعومة لم تصل إلى كل المواطنين في كل المناطق، ولم يتم التمييز بينها وبين السلع غير المدعومة، الأمر الذي أتاح الفرص أمام الاستغلال وتحقيق الأرباح الكبيرة. فسياسة الدعم فشلت في ظل الظروف العادية فكيف تنجح في ظل غياب كلي للدولة وانعدام الرقابة والمساءلة وتفشي الفساد؟

ثالثاً: آخر المسكنات جاء من حاكم مصرف لبنان الذي أصدر تعميماً حدد بموجبه سقوفاً لسحوبات المصارف من مصرف لبنان بالليرة اللبنانية. وزعم مصرف لبنان أن هذا التدبير يستهدف امتصاص جزء من الكتلة النقدية التي تشكل ضغطاً على سعر الصرف. كما يستهدف التعميم حفز المواطنين على استخدام السيولة المخزنة لديهم. وبدا جلياً من خلال ردود الفعل على التعميم إن المواطنين يستخدمون ما لديهم عندما تعود الثقة إليهم. كما أن التدبير دفع بالمؤسسات التجارية والخدمية كالمستشفيات والمختبرات ومحلات السوبر ماركت إلى رفض القبض عبر الشيكات المحررة بالليرة، وكذلك رفض القبض بواسطة بطاقات الائتمان الأمر الذي سيجعل من الليرة عملة صعبة وإعطاء فرصة للصيارفة بالتعامل مع الشيكات بالليرة شرط فرض حسومات عليها. أي يصرف الشيك بقيمة 100 مليون ليرة بـ 90 أو 80 مليون ليرة نقداً.

ماذا كانت النتيجة؟

والسؤال هو: أي نتيجة حققتها هذه التدابير لجهة معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية، أو للتخفيف من تداعياتها على الأقل. يمكن القول بشكل جازم أن لا شيء تحقق بل أن الوضع يشتد تأزماً ويكبّد الاقتصاد كلفة إضافية.

• فالناتج المحلي الإجمالي (GDP) يتوقع بحسب تقديرات المؤسسات المالية الدولية أن ينحدر في العام 2020 إلى ما بين 38 و39 مليار دولار أي بتراجع قدره 25 في المئة عن العام السابق.

• الدين العام بات يمثل 250 في المئة من إجمالي الناتج، وإذا تم احتساب الديون المترتبة على الدولة لصالح الضمان الاجتماعي والمستشفيات والمقاولين، يرتفع أقله إلى 110 مليارات دولار وترتفع نسبة الدين إلى الناتج إلى نحو 300 في المئة.

• تراجعت إيرادات الخزينة بنسبة 28.6 في المئة في نهاية الأشهر السبعة الأولى من العام مقارنة بالفترة المماثلة من العام 2019.

• تراجعت الإيرادات الضريبية بنسبة 27.4 في المئة في أول 7 أشهر، فضلاً عن تراجع إيرادات الجمارك 33 في المئة والضريبة على القيمة المضافة 55.2 في المئة

• تزايد الانكماش الاقتصادي بسبب تضاؤل القدرة الشرائية وارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية.

• عدم تمكن السلطات النقدية من تحقيق استقرار في سعر الصرف، مع استمرار نشاط السوق الموازية، وقيام أسعار صرف مختلفة للاستيراد والاستهلاك.

مرتا... مرتا

في خلاصة القول يقفز إلى الأذهان القول المأثور "مرتا... مرتا" تتحدثين عن أمور كثيرة والمطلوب واحد". إن كل التدابير التي تم اتخاذها والتي يمكن اتخاذها لا تعالج صلب المشكلة المتمثلة بانعدام الثقة بالدولة سواء على الصعيد الداخلي أم الخارجي، وبالتالي فإن الحلول الجذرية باتت معروفة ويرددها الجميع دون العمل على تحقيقها، الحلول تكمن في الآتي:

- تشكيل حكومة توحي بالثقة وتكون قادرة على المباشرة في تنفيذ البنود الإصلاحية المعلنة.

- وضع خطة متكاملة والدخول في مفاوضات مع صندوق النقد تثمر توفير قروض ميسرة للبنان.

- إن من شأن هذه التدابير تحريك برنامج "سيدر" واجتذاب تدفقات مالية ولو تدريجاً.

- إن هذه التدابير تخلق مناخاً من الثقة وتمكن القطاع المصرفي من الشروع في عملية إعادة هيكلته وفقاً لرؤية متكاملة للحلول الإنقاذية.

وخلاصة القول أن الأزمة المستعصية التي وضعت لبنان على حافة الانهيار والإفلاس لا يمكن معالجتها إلا بحلول جذرية هي سياسية بامتياز وإذا لم يتم ذلك سريعاً، تبقى الأزمة تراوح مكانها تتأرجح بين الكيديات والمحاصصات وبين تدابير "المسكنات".


الكاتب

بهيج بو غانم


شريط أخبار تويتر

شريط أخبار الفايسبوك